عن تسيّد «حزب الله» والـ«Casus Belli».. عودة إلى 7 أيار 2008

عن تسيّد «حزب الله» والـ«Casus Belli».. عودة إلى 7 أيار 2008

  • ٠٦ أيار ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

واحدة من أسباب قوة «حزب الله» هي سطحية وضعف خصومه. فهل من عاقل كان يظن أنّ سعد الحريري أو فؤاد السنيورة بربطتي عنقهما كان يمكنهما لوي عنق الحزب؟

إنّ كان شيشرون الروماني أول من استخدم تعبير «Casus Belli»  في التاريخ، إلّا أنّ «حزب الله» يعرف معنى هذا التعبير اللاتيني جيداً ويستعمله بشكل دائم. التاريخ القديم والحالي خير دليل على ذلك، حيث يلجأ الحزب إلى القتال عندما يرى أنّ هناك «حالة تُبرر الحرب» حسب معنى التعبير العائد إلى القرن الأول قبل الميلاد.
مما لا شك فيه أنّ توازنات النظام السياسي والحياة السياسية في لبنان دقيقة للغاية، إنّما آلياتها الهشة قد تجعل من أي حركة «حالة تُبرر الحرب». واحدة من هذه الحركات كانت عام 2008، وعائدة للنائب السابق وليد جنبلاط وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وهي عبارة عن قرارين اتخذتهما حكومته. لقد نصّ القرار الأول على اعتبار «شبكة الإتصالات الهاتفية التي أقامها حزب الله غير شرعية وغير قانونية وتشكل إعتداء على سيادة الدولة والمال العام»، فيما نصّ القرار الثاني على «إقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير من منصبه».
إنّ القرارين إعتبرهما حزب الله "Casus Belli"، فأرسل مقاتليه لاقتحام بيروت والجبل «الجنبلاطي» اللبناني. الصعود إلى الجبل كان «ضرورة»، طالما الحركة المسبّبة للحرب كانت مدفوعة من «مغامرة جنبلاطية» غير محسوبة. دعك من تلك الصفة الخدّاعة التي تلصق بالرجل لكأنّه عالم بالغيب يتنبأ بالمستقبل بشكل صحيح وذكي، إذ أثبتت مغامرته عام 2008 قصر مداها، على الرغم من أداء مقاتلي «التقدمي الإشتراكي» الجيد في الميدان في السابع من أيار من ذلك العام. 

وإن كان الهجوم على الجبل «ضرورة»، بدا الهجوم العسكري على بيروت ترف، ليقول «حزب الله» بأنّه يستطيع السيطرة، بسهولة، على العاصمة متى أراد. لم يكن السنيورة المستهدف الأول، بل سعد الحريري، العامل حديثاً في السياسة اللبنانية خلفاً لوالده الشهيد. وبعد أداء ميداني سيئ من أنصار الحريري، فهِم الرجل الطري العود خلال تلك المعارك أنّ مواجهة الحزب في الميدان غير ممكنة وأنّ القيام بأي حركة غير مدروسة تسّبب «حالة تُبرر الحرب». هذا ما فهمه الحريري بعد فترة، وبات على تنسيق وتواصل دائم مع الحزب، متمماً ذاك المثل الشعبي اللبناني البغيض: «الإيد اللي ما فيك عليها، بوسها وادعي عليها بالكسر». 
بعيداً عن تفاصيل المعارك، والفرق الشاسع الذي أفرزته تلك المواجهات بين «حزب الله» من جهة والبقية من جهة أخرى، كما بين سكان المدن وسكان الجبال من جهة أخرى، أتمّ هجوم الحزب غايته في السياسة. تمّ التراجع عن مُسبّب الحرب، بعدما ألغت الحكومة الصاغرة القرارين، فتلاها توقّف هجوم الحزب.
في السياسة أيضاً، شكّلت أحداث السابع من أيار 2008 جملة من المفارقات والنتائج. لم يكن الجانب المسيحي من لبنان معنياً بهذه الحرب الصغيرة. لا وجودهم السياسي في الحكم كان جدياً ولا «حزب الله» أعارهم أي إهتمام حتى. من ناحية أخرى، شكّل تاريخ هذه الأحداث بداية تسيّد الحزب على الحياة السياسية بشكل جدّي. ما عاد أحد قادراً على أن يأخذ قراراً مهماً قد يُغضبه، فيما باتت الحكومات غير الموالية له بعد تلك الحرب الصغيرة محابية له وغير جسورة على معاداته بأي شكل من الأشكال. 

واحدة من أسباب قوة «حزب الله» هي سطحية وضعف خصومه. فهل من عاقل كان يظن أنّ سعد الحريري أو فؤاد السنيورة بربطتي عنقهما كان يمكنهما لوي عنق الحزب؟ محظوظ هذا الحزب بأخصامه القدامى وحتى الجدد، وفيما هو يخوض الحروب في الإقليم اليوم، لا دليل حقيقي على أنّ أي طرف داخلي يثير إهتمامه أو يعيره أي إنتباه جدّي.
بعد ذلك التاريخ، بات الجميع على دراية أنّ ضاحية بيروت الجنوبية باتت أقوى من العاصمة بذاتها، أكان في عدد سكانها أو في نوع سلاحها أو في تضامن قادتها أو في حركية أبنائها وأحزابها. بات الجميع يعرف أنّ من يريد أن يحكم رسمياً عليه أن يُحابي الحزب عليه ألّا يغضبه وأّلا يفتح شهيته على حركة عسكرية جديدة. أما كل ما يقوم به خصومه اليوم عملياً، فهو رفع السقف الخطابي ضده أمام أنصارهم حصراً، وتضخيم دورهم في المواجهة معه لكأنّ هناك أصلاً مواجهة حقيقية معه.

أما إنزواء الحريري ومغادرته للبنان و«إضرابه» المفتوح عن العمل السياسي، كان مفترضاً أن يتمّ في ذلك العام. في حينها، التسيّد الشيعي على ما يمثله الحريري في بيروت كان دليلاً فاقعاً على أنّ الأيام القادمة لن يكون فيها إلّا سجيناً لحزب أقوى منه، وأنّه فقد، كذلك، دوره المفترض في الحياة السياسية.
هذا الدور القائم على رباعية متشعبة ومشروطة لبقائه في لبنان، فقدها الحريري رويداً رويداً. أول أدواره كان تمثيل السعودية في لبنان، ثانيها الحفاظ على مركزية القرار السياسي في البلاد، فيما ثالثها الحفاظ على دور الطائفة السنية كمتسيّدة على السلطة المركزية، أما مقارعة «حزب الله» فهي رابعها. فَقَدَ الحريري، في مساره السياسي، أدواره الواحدة تلو الأخرى، ثم انتفى حضوره السياسي بعد أن خسر آخر دور منوط به بعد بلوغ حدّ خلافاته مع القيادة السعودية مرحلة غير قابلة للإصلاح.

في النهاية، أعمال الحزب العسكرية عام 2008 جعلته يتقدّم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتأثيراً في لبنان، فيما ميزته الأساسية هي جبروته العسكري الداخلي، وهو جبروت مفهوم أمام بعض الحركات الميليشياوية التعيسة والهرمة المتبقية في لبنان. أما أعماله العسكرية اليوم ضدّ إسرائيل، فقد تجعل منه أقل ضعفاً في المستقبل القريب، أو ربما تدفعه للإندفاع من جديد لتحقيق نصر داخلي بعد الهزيمة الخارجية الواردة.