طرابلس وجيرانها.. إلفة وتفاعل عبر الزمن!

طرابلس وجيرانها.. إلفة وتفاعل عبر الزمن!

  • ٠٢ أيار ٢٠٢٤
  • إلياس معلوف

إنّ إعلان طرابلس «عاصمة للثقافة العربية» يستدعي منا البحث في ماضيها وعلاقاتها التاريخية وحاضرها مع جوارها الشمالي بعيداً من الصور النمطية والتعميم والأفكار المسبقة التي لحقتها من البؤس الى التطرّف وغيره من أوصاف لا تليق بتاريخ المدينة العريق، هي المدينة التي اجتمعت فيها أمم مختلفة وأقوام، تظهر جذورهم في نسبة أسمائهم إلى أمصار بعيدة، تصارعت حيناً، وتآلفت أحياناً، إلى أن صنعت منها «مدينة عابرة للمتوسط » بأبعادها المحلية، والعربية.

قِيل عن طرابلس إنّها فيحاء لإتساعها ولرائحة زهر الليمون التي تفوح من بساتينها، أو لعطر الصابون الذي تعبق به أسواقها القديمة، وإنّها مدينة الحلوى لطعم السكر الذي تتركه في ذاكرة مذاقنا... هي لم تكن  في يوم من الأيام، جزيرة معزولة عن محيطها ولا مجرد مدينة كبيرة على ساحل المتوسط، بل كانت مدينة تقود قافلة الإزدهار الإقتصادي والسياسي والثقافي في كلّ ساحل بلاد الشام والمناطق المحيطة بها.  وقد كانت علاقة علمائها بالمحيط، علاقة صداقة وطيدة، وتبادل ثقافي ومعرفي، لا يقتصر على المسلمين فقط بل شملت الشركاء في الوطن أيضاً، فكانت مجالس علمهم تضج بالمتعلمين من مسلمين وغيرهم. 

ونشأت بين طرابلس والجوار علاقة تعاون وتفاعل مستمرة حتى اليوم. فضلاً عن المتطلبات الإقتصادية التي كانت تدفع بسكان المناطق المجاورة او البعيدة للمجيء إلى طرابلس للتبضع والتموين وتصريف المتنوجات، هناك إحتياجات إدارية وتربوية فرضت، ولا تزال، على سكان الجوار الإنتقال إلى طرابلس لإنجاز المعاملات الرسمية وسابقاً تسجيل أولادهم في المدارس المنتشرة فيها. 

كلّ هذا جعل من طرابلس، وعلى مرّ العصور، المدينة النموذج لتنوّع حضاري متفاعل مع الآخر ومنفتح على كلّ الثقافات وعلى كلّ الشعوب، تبني حاضرها بما يرفده إليها ماضيها من عراقة وأصالة، وبما تزوده علاقاتها مع محيطها القريب والبعيد من تجارب ومعارف تتفاعل معها وتفعل فيها.

الصور من كتاب "طرابلس في عيون أبنائها والجوار" (جروس برس ناشرون)

 

ورغم أنّ غالبية أهلها من أهل الجماعة أي السنّة، مع حضور إسلامي علوي لا بأس به، فإن للطوائف المسيحية حضوراً وافياً، حيث تفيدنا الاحصاءات بأنّ عدد المسيحيين، جلّهم من طائفة الروم الأرثوذكس، فاق عدد المسلمين في ميناء طرابلس، إبّان القرن التاسع عشر.  وما يعزز الحضور المسيحي للجوار، وجود المرجعيات الدينية الكبرى للمسيحيين في طرابلس. ونذكر مثلاً أنّ مطران الطائفة المارونية، مطران طرابلس وتوابعها يتواجد في مقر المطرانية في طرابلس، ويصطاف في كرم سدّة في قضاء زغرتا ردحاً من فصل الصيف. وفي المقلب الاسلامي، من المسألة، أيّ الجوار الإسلامي، فقد غدت طرابلس سكناً لعائلات كثيرة، وفدت من قضاء الضنية/المينة، لعوامل مماثلة للجوار الزغرتاوي. كما شكلت الضنية مقصداً لاصطياف عدد من عائلات طرابلس، وقد استملك كثيرون من الطرابلسيين منازل في تلك المنطقة.

وفي عام ١٨٨٠م، تأسست في طرابلس أوّل مدرسة وطنية عصرية عربية إسلامية، في ساحل بلاد الشام. وقد شكلت تلك المدرسة حدثاً مهماً، على مستوى تاريخ التربية والتعليم والمدينة. ولاقت اقبالاً كبيراً من قبل الطلاب الذين هرعوا إليها من كل المدن والمناطق المجاورة. وفي هذا السياق،  إتخذ عدد كبير من عائلات الأقضية الشمالية من طرابلس سكناً شبه دائم، لعوامل متعددة، أبرزها تعلم أبنائها في المدارس العريقة التي احتضنتها طرابلس، منذ نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن الماضي. وفي هذا المجال، نستحضر مدرسة الأخوة المريميين (الفرير)،ومدرسة الآباء الكرمليين، ومدرسة راهبات القلبين الأقدسين للبنات (اليسوعية) وغيرها. إشارة إلى أنّ سكنى طرابلس لم تقتصر على عوائل الطلبة، الآتين من المناطق المجاورة لطرابلس، بل كان لعدد كبير من الزعامات الشمالية أن تقطن فيها، إذ كان رئيس الجمهورية السابق الراحل سليمان فرنجية يمضي فترة طويلة في طرابلس من كلّ سنة بمنزله الكائن قرب المنطقة التربوية في طرابلس.


الصور من كتاب "طرابلس في عيون أبنائها والجوار" (جروس برس ناشرون)

وعلى الرغم من مساحتها المتواضعة، كان لطرابلس دائماً موقع الصدارة والريادة. فهي تقع على الطريق التي تربط مدن الشرق المتوسط ببعضها من فلسطين جنوباً حتى لواء اسكندرون شمالاً، والطريق البرية الداخلية، عبر ممّر تل كلخ وحمص الفاصل بين سلسلة جبال العلويين في الشمال وسلسلة جبال لبنان في الجنوب، التي تصل الداخل السوري بمنطقة الشاطئ عبر سهل العاصي. 

إلى ذلك، عزز هذا الموقع الجغرافي لمدينة طرابلس التواصل مع المناطق الريفية المحيطة بها، جاعلاً من العلاقة بين المدينة والريف سمّة مشتركة على الصعيدين الإجتماعي والإقتصادي، لا يمكن لأحدهما أن يؤدي بدوره بمعزل عن الآخر. فسهول الزيتون التي تكسو منطقة الكورة وقراها الملاصقة لطرابلس، تشكل بمشتقاتها من الزيت مصدر تموين رئيسي لأهالي طرابلس. كما تزودهم مطاحن زغرتا بالقمح والبرغل. أما مدن الجوار السوري، مثل حمص وحماه وحلب، فالتبادل التجاري بينها وبين طرابلس لا يزال مزدهراً إلى يومنا هذا. وقد نشأت، نتيجة لهذه العلاقات التجارية، أواصر علاقات إجتماعية ترسخت بالمصاهرة بين أهالي طرابلس واهالي هذه المدن السورية. 


إذاً، فرادةُ طرابلس بين سائر المدن اللبنانية من حيث قدرتها على استقطاب المحيط وعلى احتضان كل وافد إليها سواء للعمل أو للتجارة أو لطلب العلم فيصبح جزءاً أساسياً من نسيجها السكاني وشريكاً فاعلاً في تسيير عجلة الحياة فيها. وتوفر وتكامل جميع العناصر الإقتصادية والسياسية والتربوية التي ضمنت للمدينة لعب دوراً مركزياً في محيطها. ولا يوازي الأهمية الحضارية والثقافية التاريخية لهذه المدينة الواقعة في شمال لبنان، إلا استمرار الحياة في شرايينها على مدى الأزمنة المتلاحقة من المدنية، ليرتقي الحفاظ على كيانها إلى مرتبة الواجب الذي يقع أولاً على عاتق الميسورين من أبنائها، ومن ثم الدولة اللبنانية التي أمعنت في تهميش مناطق الأطراف، وكذلك أشقائها العرب بوصفها خزانة لأمجادهم.