في يوم شهداء الصحافة.. لبنان لا يكون إلّا بالكلمة الحرّة

في يوم شهداء الصحافة.. لبنان لا يكون إلّا بالكلمة الحرّة

  • ٠٦ أيار ٢٠٢٤
  • سمايا جابر

لم ينضب نهر شهداء الصحافة في لبنان.

في مثل هذا اليوم عام 1916، أعدمت سلطات الاستعمار العثماني على يدّ جمال باشا السفاح، عدداً من الصحافيين في وسط بيروت، على مرأىً من الجميع، والسبب كتاباتهم الداعية للتحرّر وحقّ الشعب في تقرير مصيره.
أتت تلك الحادثة قبل 4 سنوات من إعلان دولة لبنان الكبير. وكانت جريمة موصوفة لم توثّقها كاميرات، بل وثّقتها بعض الأقلام التي تجرّأت أن تكتب عن تلك الحادثة، للتاريخ. 
أعدمت السّلطات الاستعمارية العثمانية يومها،  الشيخ أحمد حسن طبارة صاحب جريدتي «الإصلاح» و«الاتحاد العثماني»، وسعيد فاضل عقل الذي أسس جريدة «البيرق» وعدد من الصحف الأخرى مثل «لسان الحال» و«الاصلاح»، وعمر حمد، شاعر شعبي ومحرر في جريدتي «المفيد» و«الإصلاح»، وعبد الغني العريسي صاحب عدد من الصحف مثل «المفيد» و«فتى العرب» و«لسان العرب». كذلك أعدمت السلطات الأمير عارف الشهاب، محرر سياسي بارز كان يكتب في جريدة «المفيد» البيروتية، وباترو باولي مدير جريدة «الوطن» ورئيس تحرير جريدة «المراقب» البيروتية، والصحافي جورجي حداد، كاتب في جريدة «المقتبس» في دمشق، وجريدتي «لبنان» و«الرقيب» في بيروت. بالإضافة إلى الشهيدين فيليب وفريد الخازن صاحبي جريدة «الأرز». 

اندثر الاستعمار العثماني، تأسس لبنان الكبير، ومن ثم أعلن قيام الجمهورية اللبنانية، إلا أنَّ الصحافيين في لبنان بقوا على موعد مع البندقية. فكان استشهاد عزيز المتني خلال أحداث العام 1958، يوم انتفض جزء من اللبنانيين بقيادة كمال جنبلاط، بوجه نظام كميل شمعون. 
المتني هو إبن بلدة الدامور في قضاء الشّوف الذي إنتُخِب نقيباً للمحرّرين وعمدةً لهم. عمل محرراً لجريدتي «البيرق» و«اليقظة». أسس جريدة «الطيار» و«التلغراف»، وكان ناشطاً سياسياً في صفوف «الحزب التقدمي الاشتراكي». عارض تعديل الدستور ومحاولة التّمديد للرئيس كميل شمعون في رئاسة الجمهورية وإعتبرها جريمة، ليُغتال برصاص مجهول في 7 أيَّار 1958، وتغيب الصحف اللّبنانية كافة لثلاثة أيام حداداً على المتني. 

في العام نفسه، وعلى المقلب السياسي الآخر، كان اغتيال فؤاد حداد، الذي اختُطف قيبل اغتياله بعد أن كتب عامودا في الصفحة الأولى من جريدة «العمل» انتقد فيها بقلمه اللاذع والساخر الأصوات التي عارضت انتخاب شارل مالك رئيساً للجمعية العامة للأمم المتحدة. 
وبعد ثمان سنوات، اغتيل «أبو الصحافة العربية» كامل مروّة في مكتبه ببيروت. هو الصحافي العربي الذي عارض الديكتاتوريات العربية ووصفته «الإيكونومست» بمستشار صناع القرار. وهو الذي أطلق الصحافة العربية نحو الحداثة والتطور. وأسَّس عدَّة صحف منها «الحياة» و«The Daily Star». عارض لغة التخوين السياسية وتقليص الحريّات في العالم العربي. واغتالته المخابرات المصرية في مكتبه في بيروت. 

وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، عام 1980، اغتيل الصحافي سليم اللّوزي، الذي كان قد سافر إلى لندن هرباً من تهديدات المخابرات السورية. اتَّسم اللّوزي بمقالاته التي حققت شهرةً عربية، وبرفضه الاستسلام للضغوطات على اختلافها. عاد إلى لبنان من لندن  ليحضر مأتم والده، ولكن كان الموت بانتظاره. إختُطِف اللوزي وبعد عشرة أيام وجِد مقتولاً وظهرت على جثته آثار تعذيب شديد. جاء في مقالته الشهيرة: «إذا استطاعت المخابرات العسكرية أن تغتالني، أكون قد إستحققت هذا المصير لأنّي أخلصت لأمتي ووطني لبنان». 

وفي العام نفسه، اغتيل رياض طه، نقيب الصحافيين الذي عمل كمراسل حربي وحاضر حول الحريّات وكتب ضدّ الإقطاعية والإجرام وبيع الوظائف والسمسرة والإثراء غير المشروع. عام 1952 تعرّض لمحاولة إغتيال فاشلة دخل على إثرها المستشفى. وعام 1955 دخل السجن من أجل مقالات إعتبرت مساساً بالسّلطات. وعام 1967 إنتُخب نقيباً للصحافة وبقي حتى إغتياله عام 1980. سقط طه شهيداً بـ 6  رصاصات وبقيت كلمته: «إنّ قافلة الوعي والتقدّم تنطلق بسرعة فإياك أن تتعرض لها لأنّها ستجتاح كلّ من يقف بوجهها». 

عام 1986، اغتيل رئيس تحرير صحيفة «النداء»، والمدير العام المسؤول في مجلة «الطريق»، سهيل طويلة، أحد وجوه الحركة الوطنية البارزة. انتمى طويلة للحزب الشيوعي واعتبر الصحافة وسيلة للدفاع عن الشعوب. ورأى أن لا قيمة للقلم إن لم يحارب بشجاعة الخيانة والغدر والجبن. 

عام 1987، إغتيل المفكر والصحفي وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، وقيادي في «الحزب الشيوعي اللبناني» حسن مروّة في منزله في ١٧ شباط عام 1987. كان مروة قد ترأس تحرير مجلّة «الطريق» الثقافيّة من العام 1966 حتى تاريخ استشهاده. كان عضواً  في مجلس تحرير مجلّة «النهج» الصادرة عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي. ناقش في مفاهيم ما زالت راهنة، مثل «الشرق والغرب»، «التبعيّة»، «الأصالة»، «التناقض»، «الحرب الأهلية اللّبنانية»، «الإسلام»، «الثورة»، «الطائفية»، و«العيش المشترك».

وفي العام 1992، اغتيل الصحافي مصطفى جحا، إبن الطائفة الشيعية الذي انتقد انجرار كثر في طائفته خلف حركة «فتح». كان جحا صحافياً معروفاً بمعارضته الدور الفلسطيني في لبنان. واغتيل بمسدّس زُوّد بكواتم صوت. ولم يتم الاهتمام بملفه. 

إنّ إغتيال الصحافيّين رافق لبنان في كافة مراحله. لاسيّما عند المنعطفات المهمة حيث ثار الشعب أو انتفض فكان للصحافة دورٌ في ذلك. 
ولقد قدّم صحافيّون أرواحهم فداءً لثورة الأرز أو « إنتفاضة الاستقلال ٢٠٠٥». فاستشهد سمير قصير عام 2005. هو اليساري الجريء بقلمه، الذي ثار ضدّ الإحتلال الإسرائيلي والهيمنة السورية. ونشر  قصير مقالات في عدة صحف محلية ودولية منها «الحياة» و «L’Orient – Le Jour» و«النهار». تمحورت مقالاته حول الدعوة إلى إستقلال لبنان عن هيمنة البعث السوري، وإلى التغيير السلمي والعلمنة والعدالة الإجتماعية وبناء دولة القانون. شارك قصير عام 2003 بتأسيس حركة اليسار الديمقراطي. وبعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري كان من أبرز وجوه «انتفاضة الاستقلال». إغتِيل عن طريق قنبلة مزروعة في سيارته. 

وفي المرحلة نفسها، إستشهد جبران تويني. رئيس مجلس إدارة صحيفة «لنهار». ونجل المفكر السياسي وصاحب جريدة النهار غسان تويني. إشتهر تويني بمعاداته الوصاية السوريّة على لبنان. عام 2005 دخل الساحة السياسية كنائب في البرلمان اللبناني، وألهب الحماسة في نفوس اللبنانيين خلال ثورة الأرز ولا يزال قسمه بعنوان «نقسم بالله العظيم»  حيًّا إلى يومنا هذا. 

إلى ذلك، خسر لبنان عام 2023، بعد حرب «طوفان الأقصى» 3 عاملين في المجال الإعلامي. شابان وشابة كانوا نابضين بالحياة. قضوا على يد الإحتلال الإسرائيلي. عصام عبدالله وربيع معماري وفرح عمر، وجوه أبكت اللّبنانيين. فعصام عبدالله ساعد في كتابة تاريخ أكثر مصداقية عبر توثيقه ما يحصل في الحروب من الجبهات. وربيع معماري أحب التواجد في الميدان، موثقاً النزاعات بين لبنان والعراق وسوريا. أما فرح عمر، مراسلة الميادين، واءمت بين عملها الصحفي ودراستها الجامعية إلى أن استهدفتها إسرائيل بغارةٍ، قضت على أحلامها وضحكتها التي لن تغيب. 
الأكيدّ أنَّنا لم نمرّ على كل الصحافيين اللبنانيين الذين اغتيلوا، في هذه المقالة. إلّا أنَّنا أردنا التذكير بأسماء نضالية دفعت أرواحها ثمناً للكلمة الحرة التي تبقى ميزة لبنان.