بهاء الحريري في بيروت.. لاعب على مقاعد البدلاء
بهاء الحريري في بيروت.. لاعب على مقاعد البدلاء
بهاء الحريري، يراقب المباراة التي يطمح أن يقودها، وكأنّه لاعب إحتياط ينتظر دوراً قد لا يأتي، ما يجعله عرضة للخروج من اللعبة والملعب قبل أن تأتي فرصته لإثبات ذاته.
في المشهد السياسي اللبناني، لا يكفي أن تمتلك إسماً لامعاً لتفرض وجودك بين لاعبي الصف الأول. فالأسماء الكبيرة قد تُفتح لها الأبواب مرة أو أكثر، لكن ما يحافظ على الأبواب مفتوحة بشكل دائم هو العمق الفكري والرؤية الواضحة. وبهاء الحريري، العائد إلى بيروت للمرة الثالثة، يبدو كمن يملك مفاتيح بيت قديم لكنه لم يرسم بعد خرائط المستقبل، أو على الأقل خرائط يمكن الإعتماد عليها.
العودة في ذاتها ليست حدثاً سياسياً، بل الخطوة الأولى في سباق طويل نحو إكتساب ثقة جمهور أصبح أكثر تشدداً وحذراً وأقل إكتراثاً. بين إرث رفيق الحريري، الذي جمع بين المال والسياسة والعمارة والعلاقات الدبلوماسية ليبني زعامة إستثنائية في لبنان، وبين تجربة سعد الحريري التي تخللتها نجاحات وإخفاقات قبل الإنسحاب مرغماً من الساحة، يقف بهاء أمام إختبار مركّب: هل يستطيع أن يكون أكثر من مجرد «الإبن الأكبر»؟ هل يستطيع أن يكون أكثر من مجرد حالة في الوقت الضائع؟
في ميزان اللحظة، يقف بهاء بين خيارين متناقضين: إما أن يصوغ رؤية جريئة تغيّر قواعد اللعبة، أو أن يظل مجرد «لاعب إحتياطي»، يدخل المباراة في الوقت الضائع ليكتشف أنّ النتيجة حُسمت منذ صافرة البداية.
حتى الآن، لا يبدو أنّ الرجل إمتلك العمق السياسي الكافي لتفكيك معضلات لبنان المتراكمة. يقدّم نفسه كصاحب «خطة إصلاحية شاملة»، لكنها لا تزال مجرد عناوين معلّقة في الهواء. السياسة ليست مجرد إعلان نوايا، بل قدرة على النزول إلى عمق الملفات الشائكة ووضع اليد على الجرح مباشرة. من دون رؤية واضحة لكيفية إصلاح النظام السياسي، أو موقف صريح من اللامركزية الإدارية والمالية، أو تصوّر جريء لمعالجة الإنهيار الإقتصادي، تبقى كل عودة وكل زيارة رسمية مجرد إستعراض إعلامي لا يُترجم إلى نتيجة فعلية.
في الإنتخابات النيابية الأخيرة، أظهر بهاء ملامح ضعف إستراتيجي فادح. خاض المعركة بتحالفات هجينة مع شخصيات غير محبوبة، بعضها مثّل رموز للخلافات القديمة أو الخيبات الجماعية أو الإثنان معاً. لم يكن حضوره الشخصي في لبنان ضرورياً؛ بل أدار الحملة عبر تطبيق «Zoom»، من بعيد، وكأنّ الانتخابات مجرد إجتماع إفتراضي لا يؤثر فيه الغياب الميداني على النتائج. بدا الرجل في حينها، وبدا بالأمس في مقابلة على «تلفزيون لبنان» مع الإعلامي وليد عبّود، أقرب إلى رجل أعمال منه إلى سياسي، إلى رئيس مجلس إدارة منه إلى زعيم لبناني. المشهد هذا أعاد طرح السؤال الأكثر أهمية: هل يمكن لرجل أن يقود تحالفات حقيقية تحدث أثراً، ويكسب ثقة الناخبين، وهو لا يحمل مشروعاً جدياً؟
العودة إلى لبنان لم تخلُ من هشاشة إضافية: فبهاء لا يملك اليوم غطاءً عربياً أو خليجياً صريحاً، وهو عنصر حاسم في السياسة اللبنانية، حيث تدور غالبية الصراعات على محور الدعم الإقليمي والقدرة على المناورة في التحالفات الخارجية. غياب هذا الغطاء يضعه في موقف أضعف أمام الخصوم، ويجعل أي خطوة سياسية محفوفة بالمخاطر، خصوصاً في الملفات الحساسة التي تتطلب توازن النفوذ العربي والخليجي والغربي.
أما الخلافات العائلية، وخصوصاً مع عمته، فهي عنصر آخر يضعف موقفه. هذه النزاعات لا تبني صورة زعيم متماسك، بل تعكس هشاشة في قدرة الرجل على جمع القوى حوله، وتجعل بعض الحلفاء المحتملين يترقبون بحذر قبل الإنخراط معه.
الرجل يحتاج إلى فريق إستشاري حقيقي، من أهل الخبرة، يضع أمامه خريطة كاملة للملفات الساخنة: من إصلاح القضاء ومكافحة الفساد، إلى إعادة تعريف علاقة لبنان بالعالم العربي والمجتمع الدولي، وصولاً إلى صياغة موقف من السلاح خارج الدولة، وهو الملف الذي لا يمكن لأي طامح للزعامة أن يتجاهله. فهل يجرؤ على تبني مواقف واضحة وحاسمة، أم يكتفي بصيغة ضبابية تترك الأبواب مفتوحة للجميع وتغلق الطريق أمام أي رأي حاسم؟
المأخذ الأكبر على بهاء أنّه لا يزال يتحرك بعقلية «الهاوي السياسي». يعود في مواسم الإنتخابات، يغيّر فريقه مع كل عودة، يجمع بعض الخارجين من «تيار المستقبل» كما لو كان يركّب «Puzzle» من قطع متناثرة لا رابط بينها. الجمهور السنّي اليوم لا يريد «حريرياً باللقب»، بقدر ما يريد زعيماً يملك رؤيا وقرار وقوة تنتشل الطائفة من كبوتها بعدما تقدمت عليها بقية الطوائف. من يعرف نبض الشارع يعرف أنّ المزاج تغيّر: لا شعارات فارغة، ولا وعود في الهواء، بل برامج واضحة وجداول زمنية للتنفيذ، وحضور فعلي لا يمكن الإستغناء عنه.
حتى في إدارة صورته العامة، يحتاج بهاء إلى أكثر من حملات إعلامية مصقولة. يحتاج إلى لغة سياسية تتجاوز المجاملات، وإلى حضور فعلي في الميدان، في الأحياء التي تنهار فيها البيوت تحت وطأة الفقر، وفي المؤتمرات الدولية حيث تُرسم حدود النفوذ. عليه أن يجيب: ما موقفه من إعادة هيكلة النظام المصرفي؟ من توزيع الخسائر؟ من إستعادة أموال المودعين؟ من موقع لبنان في الصراع الإقليمي أو ما تبقى منه؟ هذه ليست أسئلة جانبية، بل مفاتيح لبناء الثقة أو خسارتها إلى الأبد.
في ظل غياب سعد الحريري، تبدو الساحة السنّية في لبنان كسفينة بلا قبطان، تتقاذفها الأمواج بين محاولات فردية لم تكتمل وتجارب جماعية لم تولد بعد. وبهاء، إن أراد أن يملأ الفراغ، عليه أن يتجاوز إرث الخلافات العائلية، وأن يفهم أنّ الزعامة ليست صورة مع جمهور على درج فيلا مجدليون ولا صورة جميلة بربطة عنق مع مفتي الجمهورية، بل شبكة تحالفات، ومعارك مواقف، ورؤية سياسية قادرة على الصمود في اختبار الأزمات الكبرى.
السياسة في لبنان ليست هواية موسمية، ولا ميراثاً تلقائياً. إنّها لعبة شاقة تتطلب الصبر والقدرة على المجازفة والسير في الطين وبين الألغام، حيث يُختبر اللاعبون بقدرتهم على إتخاذ القرارات الحاسمة في اللحظات الحرجة. وبهاء، حتى هذه اللحظة، يقف على مقاعد الإحتياط، يراقب المباراة التي يطمح أن يقودها، لكنه يبدو وكأنّه لاعب بديل ينتظر دوراً قد لا يأتي، بلا خطة واضحة أو مدرب قادر على توجيهه، ما يجعله عرضة للخروج من اللعبة والملعب قبل أن تأتي فرصته لإثبات ذاته.