الهمج مرّوا من هنا
الهمج مرّوا من هنا
«مدّيت إيدي، مسَحت وجّ الشرق، رجعت إيدي كلّا غبرة» - موريس عواد -
هذا البيت يختزل الشرق كلّه. الذي مهما حاولت أن تنظّفه من دمائه، من أحقاده، من غباره المتراكم فوق الأرواح، يعود في كل مرة ويصفعك بوجهه القاسي: وجه الطغيان والإذلال، والعنف المتجذّر في نسيجه كأنّه من طبيعته، لا طارئ عليه.
في الشرق، حيث الشمس تشرق على أنقاض حضارات عظيمة، تتهاوى الأخلاق، وتُستباح الأرواح، وكأنّنا لسنا أبناء أرض الرسالات، بل أبناء لعنة مستمرّة.
في هذا الشرق، الناس تألف العنف كما تألف الفقر، كأنّه موسم من مواسم السنة..: شعوب لم تمرّ عليها الحضارة بعد بشكل جدّي، لم تتشرّب قيم العدالة ولا صقلت طباعها الرحمة.
ما حصل في السويداء مجزرة مكتملة الأركان، صِيغت بعناية لتفكيك المدينة، لضرب نسيجها، لهتك روحها. توزّع فيه الأدوار بوحشية: نساء يُختطفن بلا سبب، رجال يُجبَرون على رمي أنفسهم من مرتفعات المباني، وكأنّنا في فيلم وثائقي عن قبائل الغزو القديمة، لا في سوريا القرن الحادي والعشرين.
المنفّذون كُثر: ميليشيات لا وجه وغاية لها سوى العنف، جماعات بدوية خارجة عن القانون، أُطلقت الأيدي لها لتمارس همجيتها كما تريد، وجيش إكتفى بالتفرّج، أو ربما شارك من وراء الستار. جيش أقرب إلى الميليشيا تعوّد أن يرى نفسه فوق الشعب، لا في خدمته.
أما النظام، بقيادة أحمد الشرع، بدا وكأنّه يراقب الحريق بارتياح، وكأنّ الجنوب السوري عبء لا بدّ من تفكيكه، كأنّ السويداء مشروع غريب يجب كسره لتكتمل المعادلة.
مئات القتلى، أكثر من ألف و200 بحسب ما أعلن «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، طُعنوا لا في أجسادهم فقط، بل في وجودهم، في انتمائهم، في تاريخهم.
لكن العنف هنا لا يُدان، بل يُفهَم، ويُشرح، ويُبرّر. كأنّنا في تربة لا تنبت إلا شجراً مثقلاً بالدم. يسأل البعض: ما سرّ هذا الإنحدار؟ والحقيقة أنّ لا سرّ، بل نتائج طبيعية لعقود من الإذلال السياسي، والثقافي، والديني.
السويداء «مدينة جبل العرب»، التي كانت يوماً ملاذاً للثائرين والرافضين، حُوّلت إلى ساحة لرسائل السلطة، ولتصفية الحسابات، ولسحق الكرامة. ومع ذلك، لم تمُت.
الهمج مرّوا من السويداء وقبلها في ساحل سوريا، وسيمرّون في أكثر من مكان. والهمج هم سفلة الناس، يأكلون بعضهم بعضاً كما تفعل الوحوش. هؤلاء لا يرون في الآخر سوى فريسة، ولا يفهمون من الدولة سوى قوتها، ولا من الدين سوى سيفه...