شجر الميلاد و «رابيد» الحزب
شجر الميلاد و «رابيد» الحزب
كل شجرة ميلاد، ليست مجرد زينة، بل إعلان حيّ عن قدرة المسيحيين على تحويل أي مساحة في لبنان إلى فسحة من الفرح والضوء، إلى احتفال بالوجود والقدرة على الفِعل.
تتلألأ المدن والقرى اللبنانية بألوان الميلاد هذه الأيام، وتتحول الشوارع والأزقة إلى فضاءات من الضوء والبهجة. البترون تتباهى بشجرتها أمام بيروت وغيرها من المدن، فيما جبيل تتنافس مع جونيه على أجمل شجرة، وزحلة والعاقورة وتنورين والجديدة وغيرها ترفع ألوان الأضواء في مسابقات صامتة، كل واحدة في زاويتها الخاصة، كل واحدة تبني فرحها الخاص.
كل شجرة ميلاد، كل كرة تلمع، وكل زخرفة تُوضع على نوافذ البيوت والساحات، ليست مجرد زينة، بل إعلان حيّ عن قدرة المسيحيين على تحويل أي مساحة في لبنان إلى مساحة حياة، إلى فسحة من الفرح والضوء، إلى احتفال بالوجود والوعي والقدرة على الفِعل.
وفي هذا السياق، يصبح من الواضح أن المسيحيين في لبنان ليسوا موجودين فحسب، بل حاضرين بفاعلية. حضور يتجاوز مجرد التواجد الجغرافي أو الطائفي، ليصبح تأثيرًا ملموسًا في السياسة، والاقتصاد، والفن، والثقافة، والتعليم، والحياة العامة. وجود أي جماعة على الأرض أمر عادي، فهم موجودون في مصر وسوريا وفلسطين والأردن، لكن الحضور الفاعل هو ما يصنع الفرق، ويجعل من كل لحظة حياة فرصة، ومن كل شارع مساحة للنشاط والمعنى. المسيحيون هنا يلونون الأرض اللبنانية بأنشطتهم، بوعيهم، وبقدرتهم على تحويل التقاليد إلى فعل
مستمر من البهجة والحياة، ليجعلوا الواقع مساحة نابضة بالمعنى والحركة. المسيحيون هم «ملح لبنان».
في المقابل، كل طائفة لبنانية تعيش في فقاعة خاصة بها، تحرس خصوصيتها وتدير شؤونها وفق ما تعودت عليه منذ مئات السنين. الشيعة في الجنوب، على سبيل المثال، يحيط بهم واقع مختلف: بعد وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وفرض القيود على تحرك «حزب الله» في جنوب الليطاني وتسليم جزء من الأسلحة، لا تزال إسرائيل تستهدف كل يوم وآخر بعض مقاتلي الحزب، وغالباً ما يركبون سيارات «الرابيد». هذا الواقع، الصعب والمستمر، يُعاش بوعي ويقظة، لكنه لا يتداخل مع فرح المدن الأخرى، ولا يخفف من قدرة المسيحيين على الاحتفال بحياتهم.
الدروز من جانبهم يراقبون ما يجري في سوريا بعين حذرة، يعيشون قلقهم كجزء من إرثهم الجماعي. كل طائفة تعرف حدودها ومساحتها، وكل واحدة تحرس ذاتها. وهنا تظهر حقيقة أساسية عن لبنان؛ كل طائفة منشغلة بنفسها، لا بالآخرين ولا بأحداثهم. فمن يظن أنّ المسيحيين أو الشيعة يلتفتون بجدية إلى قلق الدروز على مصيرهم في الجغرافيا السورية، فهو يخطئ فهم لبنان وجماعاته. ومن يظن أنّ الدروز، أو السنة، أو الموارنة، أو الروم، أو الأرمن، يبالون فعلاً بما يحدث للطائفة الشيعية في جنوب لبنان، فهو واهم تمامًا. نحن شعوب، مجرد كيانات تتجاور على الأرض، تحترم حدود بعضها الظاهرية، لكننا نختلف في كل شيء آخر. هذا التجاور الطائفي ليس عبئًا، بل واقع طبيعي ومؤسَّس تاريخيًا، ضمانة لاستمرار التوازن بين
الجماعات.
وفي ضوء ذلك، يظهر الفرق الكبير بين مجرد الوجود والحضور الفاعل. فالمسيحيون حاضرون في تفاصيل الحياة نفسها، يحولون أي فراغ إلى نشاط واحتفال، ويحوّلون الزمان والمكان إلى مساحة يمكن أن تتحرك فيها الحياة بحرية، تعكس وعيهم لتاريخهم، ورغبتهم في جعل لبنان مكانًا يحتفل بالوجود نفسه، وبالقدرة على الفِعل والحياة، ويحول كل عيد ميلاد فرصة لإعادة الحياة إلى كل زاوية في المدن والقرى المعتمة والحزينة. حضورهم لا يُقاس بعدد المنازل أو الكنائس، بل بكيفية تأثيرهم في صناعة صورة لبنان أمام نفسه وأمام الآخرين، وفي رغبتهم أن يكون المجتمع مساحة حيّة، وليس مجرد خريطة لوجود طوائف متجاورة.
وفي النهاية، يجتمع التجاور الطائفي مع هذا الحضور المسيحي في لوحة واحدة، شجر الميلاد والأضواء هنا والرابيد هناك، كل شيء في مكانه، كل طائفة تحرس مساحتها، وكل واحدة تعيش واقعها الخاص، وكل واحدة تضيف للنسيج الوطني معنى وروحاً.

