الأب أنطون طربيه.. شهادة حيّة من وادي قاديشا
الأب أنطون طربيه.. شهادة حيّة من وادي قاديشا
من التاريخ وأولى الحياة الديرية الى الزمن المعاصر، دير مار أليشاع القديم إحتضن ناسكاً عرفه الناس وما زالوا يشهدون على خبرات معه.
دير مار إليشاع القديم القائم فوق الضفة اليمنى لوادي قاديشا، والموجود منذ القدم. عاش فيه الأب أنطون طربيه (١٩١٠ - ١٩٩٨) ناسكاً. وأعلن في تموز ٢٠١٤، ختم التحقيق الأبرشي في دعوى تطويبه، وأرسلت الدعوى الى دائرة دعاوى القديسين في الكرسي الرسولي في الفاتيكان ليُنظر فيها. الأب طربيه هو إمتداد لتاريخ الحياة الديرية والنسكية في وادي قاديشا، حيث ورد أقدم ذكر لمنطقة قاديشا في مخطوط سرياني محفوظ في المكتبة البريطانية كُتِب سنة ٥٠٩م يذكر أسماء نساك عاشوا في تلك الفترة. هوناسك معاصر وليس إسماً من بحث تاريخي، يعرفه الناس ويخبرون عن تجارب وخبرات مباشرة في لقاءات حيّة معه.
يروي الأب جوزاف مسلم الراهب الماروني المريمي
»كنت في مرحلة الإبتداء الرهباني عام ١٩٩٣ كانت صحة الأب أنطون ضعيفة، وكان يعاني من تقرحات في جسمه، مما اضطرّنا إلى السهر عليه ليلاً. كنّا نبدّل وضعيته كل ثلاث ساعات، مرة على جنبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم على ظهره ليرتاح.
في إحدى الليالي، كنت نائمًا على الأريكة بالقرب من سريره. ضبطت المنبّه على الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، لكنني غفوت حتى الثالثة فجراً. عندما أفقت مذعوراً، خشيت أن يكون قد تألّم أو احتاج إلى مساعدة. نهضت بسرعة، وما إن نظرت نحوه حتى رأيت مشهداً فائق الطبيعة: القديسة رفقا، والقديس شربل، والقديس نعمة الله الحرديني، راكعين عند طرف سريره، عند قدميه، وأيديهم مطوية نحو صدرهم كمن يصلّي بخشوع.«
شهادة الأب جوزاف مسلم تظهر كيف تتجسّد في شخص الأب أنطون إستمرارية تقليد روحيّ عريق في الكنيسة المارونية، له جذوره في دير مار إليشاع وفي جغرافيا وادي قاديشا. فالمشهد الذي رواه حضور القديسين الثلاثة رفقا وشربل ونعمة الله عند سريره لا يُقرأ فقط كحدث عجائبيّ بل كعلامة رمزية للسلسلة الروحية لقديسي لبنان.
ودير مار إليشاع ليس معزولًا عن بيئته، بل هو تجلّ لطبيعة وادي قاديشا نفسه، وادٍ حفر فيه الموارنة وجودهم الروحي تحت الصخر، وبنوا من العزلة هوية جماعية قوامها الصلاة والصبر والمقاومة بالإيمان. لذلك، فإنّ حضور الأب أنطون في هذا المكان يعبّر عن استمرارية هذا الإرث النسكي، وعن الدور الذي يلعبه وادي قاديشا كمسرحٍ زمني ومكاني لاهوتي، حيث تتجسّد العلاقة العضوية بين الأرض اللبنانية والسماء الإيمانية.
ثم يتحدث الأب مسلم عن علاقة الناس بالأب أنطون قائلاً:
»الناس تتهافت على تراب قبره، حتى إنّ التراب الذي يحيط بالقبر لم يعد موجوداً من كثرة ما يأخذه الناس. يأخذونه بإيمان عميق، بعضهم يلمسه بيديه، وآخرون يضعونه في فمهم كما لو أنّهم يتناولون نعمة.«
فالإيمان هنا لا ينفصل عن اللمس، والتراب ليس مادة جامدة بل حامل للبركة وإمتداد للجسد المقدّس. وأنّ القداسة الفردية تتحوّل إلى إرث جماعي، هذه الشهادة في تسعينيات القرن العشرين، أي في مرحلة دقيقة من تاريخ لبنان، بعد سنوات الحرب في تلك الحقبة، شكّل حضور شخصيات مثل الأب أنطون ذاكرة بديلة عن الإنكسار، ووسيلة لاستعادة الثقة بأنّ القداسة تستمر رغم الخراب.
وهو نفسه كان يقول دائمًا وفقاً للأب مسلم: «تعالوا إلى قبري، دقّوا عليه، تنالون النعم التي تطلبونها». وهذا ما يحدث فعلًا، فكم من نعمة حصلت بشفاعته بعد رحيله.
ويختم الأب جوزاف مسلم شهادته حول الأب أنطون بإشارة متكرّرة في حياته اليومية، عندما كان الناس يأتون لزيارته، كان يحيّيهم بقوله: «أهلاً وسهلاً بكم، سلّموا على ستّ البيت»، وكان يقصد بذلك السيدة العذراء مريم.
إنّ إصرار الأب أنطون على توجيه زائريه إلى العذراء مريم قبل أيّ شيء بقوله الدائم، «سلّموا على ستّ البيت»، لا يُفهم فقط في إطار التقوى الشخصية، بل كاختصار لرؤية روحية عميقة. فالعذراء وجه الحنان الإلهي في عالم يميل نحو القسوة، وهي الرمز الأسمى للرحمة والإنصات.

