طليع حمدان.. «التقدمي الإنعزالي» عدو سعيد عقل

طليع حمدان.. «التقدمي الإنعزالي» عدو سعيد عقل

  • ٢٦ تشرين الأول ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

إبن الجبل الذي لا يعتذر، لا في السياسة ولا في الكلمة. كان يعرف متى يتكلم بلغة الجبل ومتى يتكلم بلغة الوطن، ومتى يرفع صوته ومتى يُخفضه.

رحل طليع حمدان كما عاش، على إيقاع صاخب من المفارقات. شاعر خرج من رحم الجبل، وحمل في قصيدته عصبيّته ونباهته. شاعر زجليّ لا يُشبه أحداً، جمع في شخصه الوطنية والطائفية، العلنية والباطنية، السيف والقلم. كان تقدمياً إشتراكياً في الجوهر، يمارس في شعره ما مارسه أبناء طائفته في المجتمع والسياسة: التقيّة. يرفع شعارات الوحدة والعلمانية في المناسبات الوطنية، ويهتف للجبل والدروز حين يُغلق الباب ويصفو الجوّ.

منذ شبابه، أدرك حمدان أنّ الكلمة في لبنان خطيرة ولا تقل خطراً عن البندقية أو المدفع. فصاغ شعره كمن يُخفي خنجراً بين طيّات عباءته، يخرجه متى شاء ويغمده متى يبتغي. كان زجله ذات هوية مزدوجة، وجه علني يرضي الناس، ووجه خفي يهمس لدروز الجبل بلغتهم الخاصة.

حين يعتلي المنصة في المهرجانات الوطنية، كان يتحدث عن لبنان الواحد، عن العروبة والعلمانية والعدالة والإنسان، عن الوطن الذي يتسع للجميع. لكن حين تعصف الحرب، ويشتد الحصار، وتضيق الدوائر، كان صوته يتغيّر، نبرته تعلو، ولهجته تصبح أكثر جبلية وأكثر درزية.

ففي حرب الجبل عام 1983، يوم أعادت القوات اللبنانية تنظيم انتشارها، خرج حمدان من بين الناس مزهواً بالانتصار، يروي في حفلات خاصة قصص المجد والبطولة، متغنياً بالدروز وبصلابتهم وانتقامهم لإعدام الشيخ بشير جنبلاط عام 1825. في تلك الفترة قال بيته اللاذع الذي حمل ما يشبه البيان السياسي المغنّى:

بفرام جيتو ورحتو بلا فرام

ما تشوف إلا بشر عالدير هربانة

بيت اختصر حرب الجبل كلها، وأعاد روايتها بطريقته. سخرية لاذعة من موارنة الجبل الذين جاؤوا بقائدهم فادي افرام (قائد القوات اللبنانية الذي خلف بشير الجميّل)، ثم انسحبوا إلى بلدة دير القمر. قالها كمن يُعلن النصر على أخصام التاريخ.

لم يكن الزجل عنده مجرد فن شعبي، بل ساحة مواجهة سياسية، تتداخل فيها اللغة بالهوية. كان صوت الدروز حين يريدون الغناء، وصوت الجبل حين يريد التباهي. وفي الوقت ذاته، كان يرتدي عباءة الوطنية حين يطل على جمهور متنوع، فيرفع شعار لبنان الجامع ويغني للمحبة والسلام، لكأنه يُقدّم عرضاً محسوباً لزمن يحتاج إلى كلمات من هذا النوع. كان يعرف متى يتكلم بلغة الجبل ومتى يتكلم بلغة الوطن، ومتى يرفع صوته ومتى يُخفضه، في تمرين دائم على فنّ البقاء، وعلى تمظهر التقيّة على أرض الواقع.

لكن حمدان لم يكن شاعر الميدان فقط، بل كان أيضاً شاعر الغزل والحب والطبيعة... كما المواجهة الفكرية. وذروة هذه المواجهة كانت مع الفيلسوف سعيد عقل، رمز النخبوية اللغوية اللبنانية والعربية، الذي أراد للكلمة أن تطير فوق الواقع، بينما أراد حمدان لها أن تغوص فيه. كانا نقيضان في كل شيء. عقل كتب من برج من البلاغة، وحمدان كتب من ساحة تعج بالناس. الأول خاطب اللغة كأنها معبد، والثاني خاطبها كأنها ساحة حرب.

وحين سُئل سعيد عقل يوماً من قِبل الإعلامي زاهي وهبة عن رأيه بشعر حمدان، نكر معرفته به. لكن الجبليّ لم يسكت، بل رد عليه رداً زجلياً قاسياً، فيه الغضب والكرامة والسخرية والذكاء:

شفتو عقل لبنان يا إخوان

لما عالشاشة ظهر تقلّو

عم يسألو زاهي المهذّب كان

بتعرف طليع لي منشتقلو؟

هل حاقد المش عاجبو جبران

ما عاد إسمو كتير يلبقلو

قال «ما بعرف طليع حمدان»

وشعري بخلي الصخر يشهدلو

شعري بربّي عقل للخوتان

وياما برَدّي جنّنت لي عِقلو

وعقلك كنو هيك يا لبنان

يا ريتو بلا عقلو!

في هذه المواجهة الشعرية، لم يكن حمدان يدافع عن نفسه أو ينتقد عقل سبب اختلاف سياسي فحسب، بل كان يدافع عن الشعر الشعبي كله، عن الزجل الذي طالما وُضع في مرتبة أدنى من القصيدة الفصحى. رده كان تمرداً على النخبوية اللبنانية التي احتكرت تعريف «الثقافة». قال بوضوح إنّ الشعر لا يُقاس بالنحو والوزن، بل بقدرته على تحريك الناس. وكان بذلك يُعلن أنه «عدو سعيد عقل»، لا كرهاً بالرجل، بل رفضاً لفكرته عن الشعر الذي يعيش في أبراج البلاغة بعيداً عن الناس.

كان حمدان إبن الجبل الذي لا يعتذر، لا في السياسة ولا في الكلمة. في حفلاته الخاصة، بعد حرب الجبل، كان يتحدث عن «عظمة الدروز»، عن «قوة الجبل»، عن «الرجال اللي ما بتهرب»، عن بشير وفؤاد وكمال ووليد وتيمور جنبلاط. كان كمعظم أهل لبنان، يتغنون بالتعدّد والوحدة في وضح النهار، ويعيشون إنقساماتهم الطائفية الحادة في سرّ الليل.

وفي خضم كل هذا التناقض، لم يفقد حمدان موهبته ولا صدقه. كان يقول الشيء ونقيضه، لكنه يقوله بإيمان مطلق. كان وطنياً بقدر ما كان إنعزالياً، علمانياً بقدر ما كان طائفياً، شاعراً بقدر ما كان سياسياً. جمع بين الحماسة والحذر، بين الجهر والمواربة، بين القصيدة والموقف...

رحل طليع حمدان، وبقيت كلماته تُروى كوثائق لا كأناشيد. لم يكن شاعراً محايداً، بل شاهداً على زمن من الإنقسام، عبّر عنه بلهجة لبنانية أصيلة لا تُجيد التجميل إلا إستثناءً. كتب الزجل كما تُكتب السياسة، بالدهاء حيناً، بالعصبية حيناً آخر، وبالحنين الدائم إلى جبل يرى نفسه أكبر من الوطن.