الجيوش الإلكترونية: تعبئة حزبية في الفضاء الرقمي اللبناني

الجيوش الإلكترونية: تعبئة حزبية في الفضاء الرقمي اللبناني

  • ٢٥ تشرين الأول ٢٠٢٥
  • تيريزا كرم

الجيوش الإلكترونية، إنعكاس للجهل السياسي، تحوِّل الرأي العام من النقاش إلى المواجهة. وإلى «الولاء الرقمي» الكامل.

لم يعد الصراع في القرن الحادي والعشرين يُخاض فقط على ميادين المعارك أو عبر القنوات الدبلوماسية. فاليوم، تحوّل الفضاء الرقمي إلى ساحة مواجهة موازية، تلعب فيها «الجيوش الإلكترونية» دوراً محورياً في الهجوم والدفاع، في نشر المعلومات كما في تضليلها، وفي توجيه الرأي العام كما في اغتياله معنوياً.
هذه الجيوش لم تعد مجرد مجموعات من القراصنة، بل أذرع رقمية تنفّذ استراتيجيات دول وأحزاب سياسية، متسلّحة بالذكاء الاصطناعي، ووسائل التواصل الاجتماعي، ومهارات التلاعب بالمعلومة.
منذ أكثر من عقد، وُصفت وسائل التواصل الاجتماعي بأنّها «تكنولوجيا التحرير» التي ستمنح الشعوب صوتاً حراً ضد الإستبداد، وتفتح الباب أمام موجة جديدة من الديمقراطية في العالم العربي. فقد رأى الباحثون في الفيسبوك وتويتر منصات للتحرر، حيث استخدمها ناشطو الربيع العربي عام 2011 للتنظيم والتعبئة وكسر حاجز الخوف. (Diamond & Plattner, 2012; Tufekci & Wilson, 2012)
لكن هذه الصورة المثالية سرعان ما انقلبت رأساً على عقب. فبعد عقد واحد فقط، تحوّلت وسائل التواصل إلى سلاح رقمي بيد الأنظمة والأحزاب السياسية، توظّفها في السيطرة على المعلومة وتوجيه الرأي العام. وصار الحديث لا يدور عن «منصات حرّة»، بل عن «جيوش إلكترونية» و«كتائب رقمية» تتحرك بخطة وتوقيت محسوبين.
الدراسات الحديثة (Abrahams & van der Weide, 2020; Jones, 2019) تشير إلى أنّ الجيوش الإلكترونية لا تُدار فقط من غرف استخباراتية مغلقة، بل إن جزءاً كبيراً منها ينشأ عضويًا من مؤيدي النظام أو الحزب أنفسهم، الذين يملأون الفضاء الإلكتروني بمحتوى دعائي مؤيّد من دون أن يتلقّوا أوامر مباشرة. ومع ذلك، فإنّ الحدود بين التلقائية والتنظيم الممنهج تبقى ضبابية، خاصة في الأنظمة أو التنظيمات التي تحتكر الخطاب العام وتربط الولاء السياسي بالهوية الجماعية.

في هذا السياق، يشكل لبنان نموذجاً بالغ الأهمية، إذ يجتمع فيه الطابع الديمقراطي الشكلي مع الإنقسام الحزبي الحاد، ما يجعل الساحة الرقمية مرآة مصغّرة للإنقسام السياسي والطائفي الذي يعيشه البلد.

المفهوم والنشأة:
يشير «مركز البيان للدراسات والبحوث» إلى أنّ مصطلح «الجيش الإلكتروني» يُستخدم لوصف استخدام التكنولوجيا الرقمية لمهاجمة أو تعطيل الأنظمة والشبكات الإلكترونية، بهدف تحقيق تفوّق استراتيجي أو عسكري على الخصم. وتشمل هذه الأنشطة الاختراق (Hacking)، تسريب البيانات (Data Breach)، هجمات حجب الخدمة (DDoS)، وعمليات التجسس الإلكتروني، إلى جانب حملات التضليل والتلاعب بالمعلومات.
تعود جذور هذا المفهوم إلى ثمانينيات القرن الماضي، حين استُخدم المصطلح للمرة الأولى لوصف الهجمات على أنظمة حاسوب حكومية وعسكرية. وفي التسعينيات، بدأ «الهاكرز» بتوسيع نطاق نشاطهم من مجرد التسلية أو إستعراض القدرات التقنية إلى أهداف سياسية واستراتيجية. لكن مع حلول العقد الأول من الألفية الثالثة، تطور الأمر إلى تشكيل جيوش رقمية منظمة ترعاها دول وجهات أمنية.
وفي عام 2010، سجّل التاريخ نقلة نوعية في هذا المجال، إذ شهد العالم هجمات سيبرانية كبرى استهدفت منشآت نووية ومؤسسات حكومية، من بينها الهجوم الشهير بفيروس «ستوكسنت»  (Stuxnet)، الذي عطّل البرنامج النووي الإيراني. منذ ذلك الحين، باتت «الأسلحة الإلكترونية» جزءاً من الترسانة العسكرية والسياسية للدول، وأصبح الحديث عن «الجيش الإلكتروني» مرتبطاً مباشرةً بمفاهيم الحرب الإلكترونية، والحرب النفسية، وحروب المعلومات.

ومع تطور الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء (IoT)، ازدادت خطورة هذه الجيوش التي باتت قادرة على التسلّل إلى أدق تفاصيل الحياة الرقمية للأفراد والمؤسسات، مما جعلها تهديداً متعدّد الأبعاد للأمن القومي والاجتماعي.

من التحرير إلى السيطرة.. نشأة مفهوم الجيوش الإلكترونية:
ظهر مصطلح «الجيوش الإلكترونية» (Electronic Armies) في الدراسات الإعلامية مع تصاعد استخدام الأنظمة في الشرق الأوسط لمواقع التواصل عقب الربيع العربي. فبينما استُخدمت هذه المنصات بداية كأدوات للتنظيم والمقاومة السلمية، سارعت الحكومات إلى فهم خطرها الاستراتيجي وبدأت ببناء آليات مضادة.
في البداية، رُصدت آلاف الحسابات الآلية (Bots) التي تُدار مركزياً لبث رسائل مؤيدة للسلطة، أو لتضخيم وسوم (Hashtags) معينة تخدم الرواية الرسمية (Jones, 2016; Stubbs & Bing, 2018). غير أنّ دراسات أحدث (Abrahams, 2019) أثبتت أن كثيراً من المحتوى الموالي لا يأتي من هذه الحسابات المبرمجة، بل من مستخدمين حقيقيين يتحركون بدافع الولاء، أو الخوف، أو الرغبة في التقرّب من السلطة.

وقد أوضح الباحثون أن الأنظمة لا تحتاج دائماً إلى «قمع شامل» لتضبط الإنترنت، بل يكفيها أن تخلق بيئة ردع قانونية ونفسية عبر قوانين الجرائم الإلكترونية وملاحقة الناشطين، مما يدفع المستخدمين إلى الرقابة الذاتية وإلى التعبير عن الولاء علناً لتجنّب العقاب.

من الحرب الإلكترونية إلى الجيوش السياسية:
لم تعد الجيوش الإلكترونية تقتصر على الإستخدام العسكري أو الأمني. فمع انتشار وسائل التواصل الإجتماعي، تحوّلت هذه الجيوش إلى أدوات تأثير سياسي وإعلامي.
ويقول السياسي الأسترالي توني أبوت إنّ «وسائل التواصل الإجتماعي هي جدران إلكترونية تُكتب عليها أفكار وآراء الجميع، لكنها أكثر لذعاً وتطرفاً من الإعلام التقليدي».
فالسياسة عبر الفضاء الافتراضي باتت أكثر سرعة وتوتراً، وفتحت الباب أمام التعبئة الرقمية واستخدام الجيوش الإلكترونية كوسيلة للترويج أو القمع.
وفي العالم العربي، ومع موجة الربيع العربي، برزت هذه الجيوش كمكوّن رئيسي في الحملات السياسية، سواء لتلميع صورة زعيم أو شيطنة معارض. وتحولت من الفضاء المفتوح إلى ساحة الهيمنة الرقمية في العقد الأخير، وشهدت المنطقة العربية تحوّلاً حاداً في استخدام المنصات الرقمية.
ففي دول مثل السعودية، الإمارات، مصر والبحرين، تحوّل تويتر إلى منصة مراقبة كبرى، تتابع السلطات عبرها الأصوات الناقدة وتضخ في المقابل موجات من التغريدات المؤيدة (Jones & Abrahams, 2018). وتُظهر الأبحاث أنّ الأنظمة الخليجية مثلاً، لا تحتاج إلى حذف المحتوى المعارض بقدر ما تسعى إلى إغراقه بالمحتوى الموازي، سواء عبر وسوم بديلة أو عبر مجموعات من المؤثرين الموالين الذين يعيدون إنتاج خطاب النظام بأسلوب شعبي وعاطفي. هذه الظاهرة تُعرف أكاديمياً بإسم «Flooding strategy»، أي إغراق الفضاء الرقمي بالمعلومات لتشويش الرسائل المعارضة.
ومع ذلك، يحذر الباحثون من النظرة التبسيطية التي تفترض أنّ كل نشاط مؤيد هو نتاج «تحكم مركزي»، إذ إنّ بعض المستخدمين في مجتمعات تقوم على الولاء الديني أو القبلي  يعبّرون طوعاً عن انتمائهم دفاعاً عن هويتهم أو زعيمهم، كما في بعض المجتمعات الخليجية أو الإيرانية.

هذا التحول جعل الشرق الأوسط مثالاً كلاسيكياً على كيف يمكن للتكنولوجيا ذاتها أن تخدم الثورة والقمع في آنٍ واحد.

لبنان.. الولاء الحزبي و الطائفي في ثوب رقمي:
«إذا كانت هذه الأنماط قد وُثّقت في دول عربية عدة، فإنّ لبنان يقدم نموذجاً فريداً لتشابك الولاءات الطائفية مع التعبئة الرقمية، ما يجعل دراسة الجيوش الإلكترونية فيه ذات خصوصية مزدوجة: ديمقراطية الشكل، طائفية الجوهر.  فقد وجدت الأحزاب السياسية اللبنانية  في هذه الأداة وسيلة جديدة لتثبيت حضورها في ساحة تعجز فيها الإمكانات المادية عن مواكبة التطورات التكنولوجية، فأنشأت جيوشاً رقمية تعمل ليل نهار، لتصبح اليوم رأس الحربة في الحرب الإعلامية والسياسية بين الخصوم.
لقد اعتمدت معظم الأحزاب اللبنانية في السنوات الأخيرة على مجموعات منظّمة من الناشطين على مواقع التواصل الإجتماعي، إتخذت صفة الجيوش الإلكترونية يتمحور نشاطها بين الدفاع والدعاية والهجوم. معظمهم من المناصرين الحزبيين، حتى باتوا يشكّلون ما يُشبه غرف عمليات رقمية لإطلاق الحملات أو شنّ هجمات مضادة تحت وسوم محددة.
ففي لبنان، لم يعد استخدام هذه الجيوش مقتصراً على نشر البيانات أو الدفاع عن القضايا الحزبية، بل تحوّل إلى آلة رقمية للتأثير على الرأي العام، والمواجهة، والى أداة للتشهير والضغط الرمزي على الخصوم. وفي غياب دولة مركزية قوية تسيطر على الفضاء الرقمي، حلت أحزاب طائفية تمتلك ما يشبه «ميليشيات إلكترونية» تتحرك كلٌّ بحسب أجندته السياسية.

فمنذ عام 2019، مع اندلاع إنتفاضة 17 تشرين، أصبحت وسائل التواصل الإجتماعي ساحة حرب موازية، حيث ظهرت حملات منظمة لتشويه المتظاهرين، والترويج لروايات الأحزاب، ونشر الإشاعات أو التسريبات ضد الخصوم.

حزب الله.. التعبئة الرقمية المقاوِمة:
يُعتبر حزب الله من أكثر التنظيمات اللبنانية حضوراً على الشبكة. رغم أنّه يخضع لعقوبات غربية تحدّ من نشاطه الرسمي على المنصات، إلا أنّه يدير منظومة دعم إلكتروني غير مباشرة عبر آلاف الحسابات المؤيدة، التي تتولى ترويج الخطاب «المقاوم» وتفنيد الروايات المناهضة له، خاصة في فترات التصعيد العسكري أو السياسي.
تتداخل في هذه المنظومة حسابات حقيقية لمناصرين عقائديين مع حسابات مجهولة المصدر تنشر محتوى متزامناً، ما يعكس مستوى من التنسيق الممنهج دون إعلان رسمي.
فقد أنشأ الحزب مجموعة تُعرف بإسم «مجموعة سيميا»، تتبع للوحدة الإلكترونية في الحزب، ويرأسها عبد الله قصير، معاون رئيس المجلس التنفيذي السابق. تضم هذه المجموعة ثلاثة أقسام رئيسية:
1. قسم الترويج: يدير أكثر من 5000 حساب وهمي يُستخدم لنشر الأخبار والصور الداعمة للحزب بشكل آلي (Likes، Comments، Shares).
2. قسم الهجوم: يطلق حملات تبليغ ضد الحسابات المنتقدة للحزب على منصّات مثل فيسبوك وتويتر لإغلاقها مؤقتاً
3. قسم الحماية: مختص بالأمن السيبراني وحماية البنية التحتية الرقمية للحزب.
وتدير «سيميا» شبكة من المواقع والصفحات الإخبارية المموّلة من الحزب، وتعمل من مكتب خاص في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث تُشرف على أكثر من 200 ناشط إلكتروني يعملون من منازلهم عبر تطبيق «واتساب».
ويُعد فريق أخبار المنار الأكثر نشاطاً في هذا المجال، إذ يربط مباشرة بين الإعلام الرسمي للحزب وعمليات «مجموعة سيميا».

كما أنّ حزب الله أسّس وحدتين إضافيتين: وحدة 1000: مختصة بتحليل بيانات الهواتف والحواسيب. ووحدة 900: تتابع الحسابات «المشبوهة» لكشف المعارضين والخصوم.

التيار الوطني الحر.. الدفاع عن «الرئيس الرقمي»:
من جهة أخرى، اعتمد التيار الوطني الحر بشكل كبير على الفضاء الرقمي لتسويق صورته السياسية، خصوصاً خلال عهد الرئيس ميشال عون.
وقد اشتهرت ما يُعرف بـ«اللجان الإلكترونية» التي تهاجم المنتقدين وتدافع عن «العهد»، مستخدمة خطاباً يجمع بين الهوية المسيحية والزعامة العائلية.
الدراسات اللبنانية حول التواصل السياسي (مثل عمل الباحثة نادين ناصيف، 2023) أشارت إلى أنّ هذه اللجان تُدار أحياناً بتمويل حزبي مباشر، وأحياناً أخرى من ناشطين متطوعين يشعرون بواجب «حماية الزعيم».
يمتلك التيار الوطني الحرّ جيشاً إلكترونياً فاعلاً يُعرف بـ FEA، كما يوضح عضو المجلس الوطني في التيار جورج سروفيم لصحيفة النهار.
إنطلق هذا الجيش بعد إدراك تأثير التواصل الإجتماعي على الرأي العام، خصوصاً الشباب، ويعتمد بشكل كبير على التنسيق عبر مجموعات «واتساب» لإطلاق حملات محددة أو الدفاع عن مواقف سياسية.
يؤكد سروفيم أنّ «جيش التيار الإلكتروني يدافع بقوة على تويتر لإظهار وجهة نظر مغايرة للرأي السائد»، مشيراً إلى أنّ بعض ردود الفعل قد تكون «عدائية لكنها ضمن حق الردّ».
إلا أنّ هذا الجيش واجه إنتقادات حادة، خاصة بعد حملات التهجم على صحافيين وناشطين، مثل الإعلامية ديما صادق والناشطة أماني دنحش، التي طُردت من عملها بالإمارات بعد حملة ضغط قادها جمهور التيار.

وقد أشارت صحيفة نداء الوطن إلى أنّ الجيش الإلكتروني للتيار لم يسلم من الإنقسامات الداخلية أيضاً، إذ شنّ بعض ناشطيه حملة ضد الرئيس ميشال عون والسيدة الأولى، ما يعكس فقدان السيطرة على الخطاب الإلكتروني أحياناً.

القوات اللبنانية.. من الدفاع إلى الهجوم المنظّم:
حزب القوات اللبنانية، يُعد من أوائل الأحزاب التي اعتمدت مفهوم «الجيش الإلكتروني»، بحسب ما صرّح به النائب ملحم رياشي لصحيفة النهار.
يقول رياشي إنّ الفكرة أُطلقت في معراب بهدف حماية صورة الحزب وتسويق فكره والدفاع عنه أمام الحملات التي يتعرض لها. إلا أنّه يرى أنّ الظاهرة «تشوّهت وتحوّلت من وسيلة للنقاش إلى سلاح للتنمر والإنقسام».
ويرى شارل جبور، مسؤول الإعلام والتواصل في الحزب، في حديث إلى الشرق الأوسط، أنّ «الجيش الإلكتروني القواتي منظم ويتبع لجهاز الإعلام»، مؤكدًا أنّ «القوات تعاملت باحترافية مع هذا الملف، لكنها لا تتحمل مسؤولية أي تغريدات تصدر عن حسابات تدور في فلك الحزب من دون التزام حزبي مباشر».
ومؤخراً، اتهم موقع ليبانون ديبايت هذا الجيش بشنّ حملة منظمة ضده بعد نشره تحقيقات اعتبرها الحزب مسيئة له، واصفاً ذلك بـ«الترهيب الرقمي» ومحاولة إسكات الرأي الآخر، مؤكداً أنّه سيلجأ إلى القضاء.

القوات اللبنانية تُحافظ على حضور رقمي منظم نسبياً، حيث تُركّز صفحاتها على الخطاب الوطني والمؤسساتي، لكنها ترد بعنف على الحملات المعادية أو حتى على أي اعتراض او ترشح قد يضر بها أو مخالف لارائها خصوصا في البيئة الضيقة، فينطلق  منها المغردون الى الهجوم الإنفعالي وتشويه الخصم  لتواكبها أصوات من هنا وهناك من المناصرين على المساحة  الحزبية تدور كلها كباقي الأحزاب في إطار الشتيمة والدفاع عن صورة الزعيم.

حركة أمل.. فلديها «كتائب إلكترونية» تعمل بتنسيق شبه رسمي، وغالباً ما تتكامل مع منصات حزب الله في مواجهة الخصوم المشتركين.
تيار المستقبل.. الذي كان رائداً في التواصل عبر تويتر في عهد سعد الحريري، تراجع حضوره الرقمي بعد انسحابه السياسي، لكن إرثه في استخدام المنصات للتعبئة الإنتخابية ما زال قائماً.

المستقلون.. في المقابل، تنشط مجموعات من المستقلين والمعارضين الذين يسعون إلى كسر إحتكار الأحزاب للخطاب، لكنهم يواجهون حملات تنمّر وتبليغ ممنهجة تجعل النقاش العام مشوّهاً ومشحوناً.

بين الدعم العضوي والتوجيه الممنهج:
تُظهر التجربة اللبنانية أن الجيوش الإلكترونية ليست مجرد أدوات ميكانيكية، بل إنعكاس مباشر للإنقسام الإجتماعي والسياسي.
ففي حين تخلق الأنظمة السلطوية جيوشاً إلكترونية لأهداف رقابية، تولد الجيوش اللبنانية من رحم الانتماء الطائفي والمصلحي، حيث يصبح الدفاع عن الحزب أو الزعيم معادلاً للدفاع عن الذات والهوية. وبذلك، تتحول المنصات من فضاء حر إلى امتداد افتراضي لساحات المواجهة الحزبية.
في المقابل، يُظهر الجانب العلمي من الدراسات العالمية (Marantz, 2019; Rao, 2020) أنّ السلوك العدواني على الإنترنت لا يحتاج دائماً إلى تنظيم سياسي، إذ يمكن أن ينتج عن ديناميات الشهرة، الغضب الجمعي، والرغبة في «الانتصار الرمزي» داخل النقاشات العامة.

وفي لبنان، يختلط هذان البعدان: التنظيمي والعاطفي، ما يجعل المشهد الرقمي فوضوياً ومشحوناً، لكنه فعال جداً في إعادة إنتاج الإصطفافات السياسية.  وأضاف الإنقسام الطائفي طبقة جديدة من التعقيد، حيث صار الولاء الحزبي يُقاس بعدد التغريدات، والمواقف تُحسم في فضاء افتراضي. 

 لقد أظهر إستطلاع رأي للشباب اللبناني الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة -أجراه مركز رشاد للحوكمة الثقافية في مؤسسة أديان- عام 2020، «ضعف الثقافة السياسية لديهم بشكل لافت. إذ 22% منهم فقط قد اطَّلعوا على نصّ الدّستور اللبناني. واللّافت أيضاً، أنّ وسائل التواصل الإجتماعي تحتلّ المرتبة الأولى، بين مصادر المعلومات السياسية لدى هؤلاء الشباب بنسبة 63%، تليها شاشات التلفزة بنسبة 56%، ثم الأشخاص الموثوق بهم من قِبل أولئك الشباب بنسبة 49%. أمّا الصحف، فحازت أقلّ من 1% (0.2% فقط). المقلق في هذه البيانات، أنّ المصادر الرئيسة للمعلومات لدى الشباب، غالباً ما تلعب دور تأكيد القناعات، بدل مساءلتها أو توسيع مساحة المعرفة المرتبطة بها. إذ يعتمدون بالإجمال على صفحات ومواقع تشبههم من ناحية القناعات الإيديولوجية. هذا الموقف يتشابه مع إعتماد الشباب على أشخاص موثوق بهم من قِبلهم، كمصادر للمعلومات. والثقة هنا، غالباً ما تكون مرتبطة بالعاطفة، أكثر منها بالعقل، أيْ تكون هذه المصادر -كما وسائل التواصل الإجتماعي- في مجملها لتأمين الدعم للقناعات، والبقاء في المنطقة الفكرية المريحة «comfort zone».
هكذا، تتحول الجيوش الإلكترونية إلى مرآة للواقع السياسي والاجتماعي: تعكس هشاشة الدولة، واستمرار الزعامات، والجهل السياسي ووهم التغيير،  وتحوّل الرأي العام من نقاش إلى مواجهة. فتتخذ المنصات شكل «الولاء الرقمي» الكامل، بدل أن تشكل مساحة حوار حر.

 

المراجع :
Abrahams, A. (2019). Authoritarianism and Twitter in the Middle East.
Diamond, L., & Plattner, M. (2012). Liberation Technology.
Jones, M. O. (2016–2019). Digital Authoritarianism in the Gulf.
Marantz, A. (2019). Antisocial: Online Extremists, Techno-Utopians, and the Hijacking of the American Conversation.
Rao, V. (2020). The Internet of Beefs.
N. Nasif (2023). Lebanese Parties and Digital Political Mobilization.
https://www.taadudiya.com  فادي ضو