«حتى الحجارة حلّقت بعيداً».. رحلة في ذاكرة الحرب الأخيرة
«حتى الحجارة حلّقت بعيداً».. رحلة في ذاكرة الحرب الأخيرة
يبحث الفيلم عن الأشياء الحلوة وسط المرارة. في أحد المقاطع، يُطرح السؤال مباشرة: "شو في شي حلو صار معك بالحرب؟"
ضمن فعاليات «Design In Conflict»، عُرض الفيلم الوثائقي القصير «حتى الحجارة حلّقت بعيداً» للمخرج أنيس ناصر الدين، تجربة سينمائية تحمل دفئاً ومرارة في آن واحد. يأخذك الفيلم في رحلة تحيي أنقاض الحرب الماضية على لبنان، وتعيد رسم بيروت والجنوب كمضمار حيّ قابل للتغيير الدائم في ظلّ أزمات المنطقة وتحوّلاتها الجيوسياسية المستمرة.
بعيداً عن الإطار الشكلي للفيلم، يتحدّث العمل عن شاب لبناني بسيط، مراهق، يمارس هوايات المراهقة اللبنانية اليومية: «قعدة القهوة مع الشباب»، «كزدورة على الموتو»، علاقته بوالدته، وهواية التصوير التي ترافقه كنافذة على العالم. كل هذا يحدث خلال الحرب الأخيرة على لبنان، التي جرّدته من براءة قد يكون عرفها يوماً، إلى مواجهة مبكرة مع معنى الخسارة والنضوج.
السرد يتدفّق بسلاسة وذكاء. في أحد المشاهد، يحتسي الشاب القهوة للمرة الأولى. هذا الفعل البسيط يتحوّل إلى رمزٍ للنضوج؛ إذ يبدأ بالإستمتاع بالمرّ، كما لو أنّه تعلّم تذوّق الحياة في أكثر لحظاتها قسوة. إنّها رحلة بحث عن مراهقة سلبتها نيران الإحتلال، وعن زمن لم يعد ممكناً إستعادته إلا عبر الصورة والذاكرة.
يتدفّق الفيلم بالصورة والصوت كما لو أنّه عام كامل من الحرب اختُصر في ربع ساعة. الألوان برّاقة، لكنّ صدق القصّة والرحلة الشعرية يجعل المشاهد غير معنيّ بجمال الصورة بقدر ما يُسحب إلى صدق التجربة. وكأنّ الأحداث سلبت للحياة ألوانها. هنا ينجح ناصر الدين في بناء توازنٍ نادر بين الجمال البصري والمأساة الإنسانية، فيجعل الضوء يخترق الركام لا ليزيّنه، بل ليُظهر هشاشته.
على مستوى المونتاج والصوت، يقدم الفيلم تجربة حادة ومكثفة. المونتاج سريع جداً، لا يترك للمشاهد مجالاً ليرمش، إنعكاساً للقلق المستمر الذي يختبره الشاب وعائلته. الصوت محض وواقعي، ركام، طائرات مسيّرة، قصف، أحاديث عائلية، وصوت الأمّ الذي يظلّ حاضراً كخيطٍ عاطفي وسط الفوضى. في الصورة، نقاء غريب يتعاكس مع الواقع المرّ للأحداث، ويخلق فجوة جمالية مؤلمة بين ما يُرى وما يُعاش.
يبحث الفيلم عن الأشياء الحلوة وسط المرارة. في أحد المقاطع، يُطرح السؤال مباشرة: «شو في شي حلو صار معك بالحرب؟». لكنّ الجواب يأتي مضمّناً في نسيج الفيلم نفسه، لا في الكلمات. فالمخرج يبحث عن جمال منزله المدمّر، عن ذكرى دفنتها الركام، عن بيت الجدّ، وعن جسد الجدّ الراقد في ضيعته. ومن خلال هذه الرحلة الشخصية، يكشف ناصر الدين أنّ الحرب سلبت الراحة من الأموات كما من الأحياء.
الفيلم يعمل على أكثر من مستوى: سردي، بصري، ورمزي. القهوة تصبح طقساً صغيراً للنضوج، الركام يتحوّل إلى مادة للتأمل، وركوب الموتو يرمز إلى حرية قصيرة في عالم متقلّب. كل هذه العناصر تجتمع لتصوير مراهقة ضائعة وسط المدن المدمرة، ولتقديم رؤية شخصية ووجدانية للحرب، تختلف عن التقارير الإخبارية أو الصور النمطية للصراع.
في النهاية، «حتى الحجارة حلّقت بعيداً» ليس فقط وثيقة عن الحرب، بل عن فقدان الطفولة ودهشة الحياة في زمن القصف. فيلم عن شابٍّ فقد مراهقته قبل أوانها، وعن بلدٍ يبحث في الركام عن بقايا ذاكرة. في كل لقطة، يهمس نصر الدين بأنّ الجمال لا يختفي في الحرب، بل يُختزل، يتكسّر، ويواصل التحليق بعيداً، حتى لو كانت الحجارة هي من تطير هذه المرة. الفيلم يترك المشاهد يتأمل في معنى الذاكرة، الألم، والقدرة على العثور على شيء حيّ وسط الرماد.

