الروشة ليست لوحة حزبية.. لا للوصاية الرمزية
الروشة ليست لوحة حزبية.. لا للوصاية الرمزية
لبنان، أصلاً، بلد لم يتفق يوماً على رواية واحدة للموت ولا على شهيد واحد جامع. الشهادة في لبنان نسبية، محكومة بالإنقسام. ومن أراد أن يفرضها على الجميع، إنّما يفتح الباب على نزاعات لا تنتهي.
ليس الخلاف على صورة تُضاء فوق صخرة الروشة، كما لو أنّ الحجر يحتاج إلى ظلّ إضافي. الخلاف أعمق وأخطر: هو على محاولة فرض سردية لا يشارك فيها الجميع، على تحويل رمز من رموز بيروت إلى لوحة إعلانية لزعيم لم يكن يوماً زعيماً وطنياً، ولا شخصية رسمية لكي يُكرّم كما يُكرّم رؤساء أو قادة دول. إنّه، في نهاية المطاف، أمين عام حزب فقط، قائد فصيل ديني ـ سياسي، لم يحظَ في حياته ولا في موته بإجماع اللبنانيين.
حين يقرر حزب الله أن يضع صورة حسن نصرالله وهاشم صفي الدين على صخرة الروشة، فإنّه لا يكتفي بتذكيرنا بإغتيالين، بل يحاول أن يُلبس بيروت ثوباً لا يخصها. نصرالله، مهما عظم حضوره عند أنصاره، وله من المكانة عند الكثير منّا، ليس زعيماً عابراً للطوائف، ولا مرجعية وطنية جامعة. تشييعه نفسه كان شاهداً على ذلك: جثمان ملفوف براية الحزب، ومواكب محصورة في بيئته، وخطاب يردد شعاراته الخاصة. لم يكن وداعاً وطنياً، بل طقساً داخلياً. كيف يُفرض اليوم على المدينة أن تتبنى ما لم تتبناه يوم الوداع؟
الروشة ليست حجراً عادياً يُضاء بقرار حزبي، بل ذاكرة المدينة، نافذتها على البحر، ومتنفس ناسها الذين ضاقوا بالسياسة كما ضاقوا بالحروب. هي رمز لبيروت كما هي، بتناقضاتها وهويتها المتشابكة، بقدرتها على الجمع بين المختلفين. أن توضع صورة نصرالله وصفي الدين عليها، يعني أن تتحوّل الصخرة إلى جدار حزبي، إلى إعلان هوية سياسية واحدة لمدينة لا تقبل أن تُختصر.
إنّ بيروت، كما يعرف أبناؤها، مدينة الرموز الحساسة. لكل طائفة في بيروت مكانها، قديسوها، شهداؤها. الضاحية الجنوبية ذات طابع شيعي، الأشرفية ذات طابع مسيحي، الروشة ومنطقتها ذات طابع سني، وهي ليست محايدة في الخيال الجمعي. ومن أراد أن يفرض على الروشة صورة زعيم شيعي حزبي، فإنّه لا يقوم بعمل ثقافي بل بفعل سياسي صارخ، يراد منه صبغ المدينة بهوية حزبية ـ مذهبية. كأنّ الحزب يقول للبنانيين: هنا أيضاً نحن، في قلب بيروت، نضع بصمتنا على صخورها.. وعلى ناسها.
ثم إنّ نصرالله ليس رئيس جمهورية ولا رئيس حكومة ولا قائد جيش. لم يحمل صفة رسمية يوماً ليتحوّل موته إلى ذكرى وطنية عامة. هو، بصفته، مثل أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني حنا غريب أو أمين عام حزب الوطنيين الأحرار فرنسوا زعتر. هو، في المعنى الدقيق، زعيم جماعة حزبية، شهيد عند فئة، وخصم معلن عند فئات أخرى. فكيف يُعمم على الجميع ما يخص البعض؟ كيف يُفرض على المدينة أن تبكي من لم تبكِه، وأن تُكرّم من لم تبايعه؟
الأمن الداخلي لا يُهدَد بالسلاح وحده، بل أيضاً بالرموز. فالرمز حين يُفرض، يتحوّل إلى إستفزاز، وحين يتجاهل التنوّع، يصبح إعلان سيطرة. بيروت لا تحتمل هذا العبء. هي مدينة قامت على هشاشة التوازن، على التنقل الدائم بين الحزن والفرح، بين الحرب والنهضة. الروشة، في قلبها، ليست منصة لحزب ولا مرآة لزعيم، بل فضاء مفتوح لكل من يريد أن يلتقط صورة مع البحر لا مع العقيدة.
إنّ رفض نواب بيروت وفعالياتها لهذا المشروع ليس رفضاً طائفياً ضيقاً، بل دفاعاً عن هوية المدينة. دفاع عن الفضاء العام من أن يتحوّل إلى ملكية خاصة، وعن بيروت من أن تُختزل في صورة واحدة. من حقّ الحزب أن يكرّم زعيمه في الضاحية أو في مربعه الخاص، لكن لا حقّ له أن يفرضه على بيروت كلّها. فلبنان، أصلاً، بلد لم يتفق يوماً على رواية واحدة للموت ولا على شهيد واحد جامع. الشهادة في لبنان نسبية، محكومة بالإنقسام. ومن أراد أن يفرضها على الجميع، إنّما يفتح الباب على نزاعات لا تنتهي.
الروشة ملك لبيروت كلها، لبيروت التي تريد أن تبقى نافذتها على البحر لا على صورة معلّقة فوق الجرح. من هنا يصبح الرفض ضرورة لا نكاية: ضرورة لحماية العيش المشترك من التصدّع، ولمنع تحويل الرموز العامة إلى غنائم حزبية. فمن أراد أن يكرّم نصرالله، فليكرمه بين أنصاره، وله منا كل الاحترام. أما بيروت، فإنّها أوسع من أن تُختزل في زعيم واحد، وأعمق من أن تُضاء حجارتها بصورة لا تمثل إلا فئة.