حزب الله والحديد.. مع الحريّة ضد الطاعة

حزب الله والحديد.. مع الحريّة ضد الطاعة

  • ٠٨ أيلول ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

لبنان، في قلب معركة قديمة تتجدد دائماً: معركة بين من يريد الحياة كما هي، ناقصة ومليئة بالتجارب والخطايا والضحكات، وبين من يريد إختزالها في نصّ واحد مغلق لا يقبل الإلتباس ولا يقبل الخطأ.

 
ليس الخلاف مع حزب الله خلافاً على سلاح يصدأ، ولا على بضعة صواريخ تُدفن بعد معركة. الحديد عابر، مهما عظم شأنه. ما يبقى هو الفكرة، وما يرهق الصدور ليس فوهة البندقية بل ضيق الأفق الذي يريد أن يحشر الحياة في مسيرة واحدة، بلا إلتباس ولا خطأ، كأنّها نفق بلا هواء. 

الخلاف معه يبدأ من هنا: من إيديولوجيته التي لا ترى في الإنسان إلا جندياً محتملاً أو شهيداً مؤجلاً، وتنسى أنّ الإنسان، قبل كل شيء، كائن يبحث عن فرح وحبّ وتجربة ناقصة تعطي لوجوده معنى.

لبنان، الذي قام على التناقضات والإختلاط، على الحرية كشرط وحيد للبقاء، لا يمكن أن يُختزل في رؤية خانقة ترى البشر إما جنوداً محتملين أو شهداء مؤجلين. تلك النظرة ليست مجرد خيار سياسي، بل مصادرة للضحكة، للّذة البسيطة، للعشق العابر بلا فتوى. هي تحويل للحياة إلى عزاء متواصل، إلى حرب أبدية مع إسرائيل أو معنا، إلى مسيرة لا مكان فيها لخطأ ولا لإرتباك، فيما إنسانيتنا، في جوهرها، لا تُقاس إلا بتجاربها الناقصة وخطاياها الصغيرة وفرحها الذي ينبت في قلب الفوضى.

ومعارضتنا للحزب ليست طائفية ولا موسمية. نحن نرفضه كما نرفض كل غلوّ ديني، أياً تكن رايته أو شعاراته. لا فرق بين كنيسة إن شيطنت الجسد أو مسجد إن لعن المختلف. لا فرق بين عمامة وقلنسوة حين يتحول الإيمان إلى جلاد، وحين تصير العقيدة مطرقة تضرب بإسم الطهر أو بإسم الحقّ. الراديكالية، في أي لباس، عدوة الحرية، عدوة الإنسان. وحزب الله ليس، في العمق، سوى تنظيم ديني راديكالي مسلح.

لقد خبرنا هذا الوجه المتحجّر للدين في أكثر من زمن ومكان. عرفناه في محاكم التفتيش التي أحالت أوروبا إلى ركام قبل أن تُولد نهضتها، وفي المذاهب التي حوّلت الحبّ إلى جريمة والحرية إلى رجس. وعرفناه في منطقتنا حين لبس القمع لبوس الدين، فأغلق أبواب الفرح وطارد المختلفين في بيوتهم ومقاهيهم ومدارسهم. في كل مرة، كانت النتيجة واحدة: خراب العمران، تصحّر الروح، وإنكماش الحياة إلى مجرد طاعة عمياء.

جرّبنا السلاح والوصاية والقمع في لبنان، فلم تبنِ وطناً. وجرّبنا أيضاً الرؤى المتحجّرة التي تقتل الضحكة وتجرّم الحب وتحوّل الحرية إلى خطيئة. كلها تركت الأرض خراباً والناس سجناء. فكيف نطمئن إلى حزب الله إن سلّم سلاحه غداً، فيما الفكرة ما زالت سيفاً مصلتاً على رقابنا؟ أي خطر أخطر من إغتيال الفرح نفسه؟ أيّ قنبلة أثقل من قنبلة الروح الممنوعة من أن تتنفس كما تشاء؟

ولبنان، في هذا كلّه، ليس إستثناء. بل هو في قلب معركة قديمة تتجدد دائماً: معركة بين من يريد الحياة كما هي، ناقصة ومليئة بالتجارب والخطايا والضحكات، وبين من يريد إختزالها في نصّ واحد مغلق لا يقبل الإلتباس ولا يقبل الخطأ. أوروبا إحتاجت قروناً من الدم لتتجاوز هذه المعركة. المنطقة العربية لا تزال تدور فيها منذ قرن على الأقل، من ثورات رُفعت فيها شعارات الحرية إلى إنقلابات خنقتها، ومن مشاريع نهضة وعلمنة إلى مدّ ديني يجرّها نحو الوراء. حزب الله، في هذا المشهد، ليس سوى فصل من فصول متكررة، لكنه فصل شديد الخطورة لأنّه يتغذى على سلاح، على جغرافيا مشتعلة، وعلى خطاب يجعل الموت قدراً والحرية ترفاً والغيبيات عقيدة.

لبنان لا يقوم على منطق الطاعة والحروب العبثية، بل على الحرية. هذه كانت المعادلة الذهبية للبنان التي أبقته حيّاً حتى وسط الركام. الحرية ليست زينة إضافية، بل مادته الأولى، خبزه الوحيد. ومن يحاول أن يختصرها في يقين جامد، أو أن يصادرها بإسم الشريعة أو العقيدة، إنّما يخنق هذا الوطن برمته.

ولذلك، نحن لا نخاصم الحديد وحده. خصومتنا مع الضيق، مع الكراهية، مع كل فكرة متصلّبة ترفض الإنسان كما هو. نريد لبنان المتعدّد، المليء بالتجارب الناقصة والأحلام الكبيرة أيضاً، لبنان الذي يضحك في وجه الموت ويغني حتى فوق الخراب. وهكذا، يصبح السلاح أمراً ثانوياً، لأنّ المعركة الحقيقية ليست على البندقية، بل على حقنا أن نعيش أحراراً، عشّاقاً، بشراً كاملي النقص، لا شهداء مؤجّلين.

ولأنّنا نعرف أنّ لبنان لا يُقاس بمقدار الخراب الذي يطاله، بل بقدرته على النهوض بعده، فإنّنا نتمسك بالحرية. هي التي تسمح له أن يعود من الركام، وهي التي تعطي لحياتنا معنى يتجاوز الموت والحرب والمأتم. أما حزب الله، بما يحمله من يقين خانق ورؤية متحجّرة، فهو نقيض هذا المعنى. ومن هنا يبدأ الخلاف الحقيقي معه: لا على بندقية تُصدأ، بل على روح نرفض أن تُختزل في طاعة، وعلى حياة نصّر أن تبقى جديرة بأن تُعاش.