رسالة إلى جورج عبدالله
رسالة إلى جورج عبدالله
عزيزي جورج، إعتبرها تعزية متأخرة، لكنها صادقة. روسيا اليوم مشغولة ببناء الكاتدرائيات وبيع الغاز، أما كوبا فأصبحت وجهة للسياح الإمبرياليين.
عزيزي جورج عبدالله،
أهلاً بك في وطنك. هنا لبنان، لا فلسطين ولا كوبا...
معلومة سريعة: هنا لا ينتصر المناضل بل يتقاعد، ولا تُرفع الرايات التي تؤخذ على محمل الجدّ إلا إذا كانت مختومة بختم طائفة. أهلاً بك في لبنان، البلد الذي لا وظيفة حقيقية له سوى تمثيل الطوائف والحفاظ عليها، لا أكثر ولا أقل.
عزيزي، أفهم تماماً حماسك ومواقفك العلنية وأنت الخارج لتوّك من سجون فرنسا. ما لا أفهمه هو رفاقك الذين جاؤوا يحيّونك بقبضات مرفوعة تنتمي إلى زمن لا يعرفه الجيل الحالي إلا من صور باهتة بالأبيض والأسود.
جورج، قضيت 41 عاماً في السجن، والعالم في الخارج لم ينتظرك. لا أقصد الإهانة إطلاقاً، لكن الزمن هذا لا ينتظر أحداً. ستدرك ذلك سريعاً. الثورة التي ناضلت لأجلها ماتت منذ زمن بعيد. الرحمة على الإتحاد السوفيتي، وعلى «حلف وارسو» وعلى الكثير الكثير من الرفاق... اعتبرها تعزية متأخرة، لكنها صادقة. روسيا اليوم مشغولة ببناء الكاتدرائيات وبيع الغاز، أما كوبا فأصبحت وجهة للسياح الأميركيين… الإمبرياليين.
حين نزلت من الطائرة، استقبلك رجال بدا أنّهم خرجوا للتو من اجتماع حزبي في سبعينيات القرن الماضي. يتحدثون عن الإمبريالية والثورة والمقاومة، ويرتدون قمصاناً ثقيلة من زمن الستينات، وتخنقهم كلمات لم تُعدّل لتناسب الخراب الذي نعيش فيه. هؤلاء لم يأتوا ليقولوا «مبروك الحرية يا رفيق»، بل ليقنعوا أنفسهم أنّهم ما زالوا موجودين. لمسوا جلدك ليتأكدوا أنّهم لم يندثروا بالكامل. يريدون أن يطمئنوا أنّ «كاسيت» الثمانينات الثورية ما زال يعمل.
لن أكشف لك سراً وأقول لك أنّه لا يعمل. صدقني، سوف تكتشف ذلك قريباً.
«المقاومة الوطنية»، كما عرفتها، تمّ تحنيطها. وضعوها في علبة زجاجية داخل متحف الكلمات الكبرى، قرب تمثال غيفارا وصورة أبو عمار وبقية شلل اليسار. يقولون إنّها «ما زالت حية»، لكن لو فتحتَ الغطاء، لما وجدت شيئاً.
قبل أشهر من خروجك من السجن، أصبح للمنطقة حاكم واحد إسمه بنيامين نتنياهو، يدخل ويخرج من حدود الدول كما يشاء، يقصف سوريا ولبنان والعراق واليمن وإيران والضفة وغزة، ولا يسمع سوى بيانات شجب، أو وعود برد «في الوقت المناسب». لا تلُم أحداً أرجوك، لقد هُزموا... لا لأنّهم قاتلوا إسرائيل بشرف فانهزموا، بل لأنّهم شغلوا أنفسهم، طوال عقود، بقتل شعوبهم.
جورج، الحزب الذي استقبلك بالزغاريد، هو نفسه من كان يعتبر الشيوعيين خطراً على مشروعه. دعني أذكرك: في زمن الحرب الأهلية، حين علت أصوات اليساريين في الجنوب، سُحقت في الصمت. قُطعت الألسن في الزواريب، وفُخخت السيارات في شوارع الحمرا ومار الياس والروشة. كثير من رفاقك أُرسلوا إلى حتفهم، لا لأنّهم خائنون، بل لأنّهم كانوا صادقين أكثر من اللزوم.
أتعرف ما هو الجرح الحقيقي، يا جورج؟ أن تخرج من السجن لتكتشف أنّ الحرية لم تعُد مطلباً. لا تخدعك كثرة المطبلين والشعارات من حولك الآن. الناس لم تعد تريد أن تحرر الأرض. كل ما يريدونه: تأشيرة سفر، إستثناء جمركي، أو واسطة في الأمن العام.
من استقبلوك في المطار يشبهونك في اللغة والذكريات، لكنهم لا يشبهونك في الإستعداد للذهاب حتى آخر الطريق. بعضهم توقف عند أول خيبة، عند أول شهيد، عند أول صفعة. قَبِل الخسارة وسمّاها «واقعية سياسية». يشبهون رفاقهم في فرنسا. لا شك أنّك تعرف تعبير "Gauche Caviar"، ولنا هنا نسخته اللبنانية.
أما الباقون، فمضوا في طيشهم حتى النهاية، وماتوا في الطريق. واليوم يبحثون عن طريقة لتأجيل تسليم ما تبقى من سلاحهم... للدولة. نعم، الدولة، تلك التي لا وظيفة لها سوى الحفاظ على الطوائف.
لا شيء بقي من المشروع. لا الحزب، لا الجبهة، لا النشيد، لا المذيع ولا حتى المذياع. كل من بقي هم بعض المغردون على منصة "X". حتى الملاجئ، على ندرتها، أُقفلت، والمناشير أُحرقت، والبنادق باتت ديكوراً في الصالونات. الكلمة التي كنت تموت لأجلها، أصبحت شعاراً إعلانياً. والنشيد الذي كنت تردده في الزنزانة، بات نشازاً في آذان الجيل الجديد.
ستكتشف قريباً، إن اخترت الإقامة في القبيات، أن نصف سكان بلدتك مع «التيار الوطني الحر»، والنصف الآخر مع «القوات اللبنانية». جرب أن تجادلهم لمرة واحدة فقط حول المقاومة، العلمانية، فلسطين، أطفال غزة... وعن الجدلية المادية، وسائل الإنتاج، مجتمع الرّق، ونمط الإنتاج الكولونيالي... ثم راسلنا إن وجدت قاسماً مشتركاً ولو واحداً.
فأهلاً بك، لا فقط في وطنك، بل في ما تبقى من فكر مات دون جنازة، ومقاومة دُفنت دون عزاء.
لنا من بعدكم طول البقاء.
مع مودتي.