33 عاماً مع نبيه برّي.. فنّ الإنتصار
33 عاماً مع نبيه برّي.. فنّ الإنتصار
كما حرّر برّي الطائفة من الحرمان، قيّدها بالولاء له، وربط مصيرها بمصيره. صار حضورها في الدولة مشروطاً بالمرور من تحت عباءته، وصار غيابها مرهوناً بغيابه
في مثل هذا اليوم من عام 1992، دخل نبيه برّي إلى مجلس النواب اللبناني ليجلس على كرسيه الأعلى. كان الـ20 من تشرين الأول أشبه ببداية عهد سياسي لم يُطوَ بعد ثلاثة وثلاثين عاماً. فمنذ انتخابه الأول، لم يعُد برّي بحاجة إلى صناديق إقتراع حقيقية ليجدد ولايته، بل إلى منظومة من الولاءات والعلاقات والصفقات المتبادلة، نسج خيوطها ببرودة ودهاء وصبر طويل. ومع مرور الزمن، صار مقعد الرئاسة في ساحة النجمة إمتداداً له، حتى غدا من الصعب التفريق بين الرجل والموقع، بين الرئيس والمجلس، بين نبيه برّي والدولة نفسها!
قبل أن يصبح «الأستاذ»، كما يحب أن يُدعى، كان نبيه برّي إبن مرحلة فاصلة في تاريخ الطائفة الشيعية، مرحلة ما بعد الإمام موسى الصدر، حين خرج الشيعة من الهامش إلى المتن، من ضواحي الفقر إلى مؤسسات القرار. وإذا كان الإمام الصدر قد أطلق فكرة التحرّر من الحرمان، فإنّ نبيه برّي هو من صاغها في معادلة السلطة. لم يكن مجرد وريث لـ«حركة أمل»، بل مهندس صعود إجتماعي وسياسي للطائفة كلها، من بعلبك والنبطية وصور إلى بيروت والسراي ومجلس النواب وكل إدارات الدولة دون إستثناء. فبرّي، أكثر من أي زعيم آخر، نقل الشيعة من موقع الإحتجاج إلى موقع التمثيل، من الشكوى إلى الشراكة، من لغة الثورة إلى لغة الدولة.
لكن ما ميّز هذا الصعود لم يكن فقط تمكين الطائفة من المشاركة في النظام، بل إدخالها إلى قلب اللعبة اللبنانية نفسها. فمن خلال المجلس النيابي، ومن خلال دوره كحكم في النزاعات الحكومية والنيابية، بنى بري نظاماً موازياً داخل النظام، يجعل منه الممر الإجباري لأي قرار أو تسوية أو قانون. صار مجلس النواب، في ظلّه، أشبه بقلعة مغلقة، تفتح أبوابها حين يريد وتُقفل متى يشاء. مرّت في عهده الحروب والإغتيالات والإنقسامات، ومرّت معه حكومات وسقوط حكومات، وبقي هو الثابت الوحيد، كأنّ الزمن يدور حوله لا عليه.
في كل إستحقاق وطني، كان لبرّي كلمة الفصل، لا لأنّ الدستور منحه ذلك، بل لأنّ الجميع تعلّم أنّ لا شيء يمضي في لبنان ما لم يمرّ عبر عين التينة. فهناك، في مكتبه الخشبي الهادئ، صُنعت القرارات الكبرى كما صُنعت التسويات الصغرى. وحين حاول خصومه تجاوزه، اكتشفوا أنّ الطريق إلى البرلمان مسدود، وأنّ جدول الأعمال في جيبه وحده. ومثلما فتح المجلس يوم التوقيع لإقرار إتفاق الطائف، أغلقه لاحقاً ولسنوات على مطالب المعارضة، وكأنّ الديمقراطية ليست نظاماً بل هبة يمنحها حين يشاء.
اليوم، في الذكرى الـ33 لتربّعه على عرش البرلمان، يجد برّي نفسه أمام مشهد يتكرر: قوى المعارضة تطالب بتعديل قانون الإنتخابات للسماح للمغتربين بالتصويت في دوائرهم الأصلية، وهو يرفض ببساطة أن يضع البند على جدول الهيئة العامة. الرفض لا يُناقَش دستورياً ولا يُبرر سياسياً، بل يُدفن في الأدراج كما دُفنت مشاريع كثيرة قبله. هكذا، يبقى المجلس النيابي في عهده ساحة للصمت لا للنقاش، وبيتاً للرئيس لا للشعب، حيث القوانين تمرّ من بوابته وحدها، وحيث المعارضة لا تُسمَع إلا في بياناتها. أما وإن أراد أحدهم فعلاً تعديل قانون الانتخابات، فلا يكفي أن يوقّع على عريضة أو يطلق موقفاً على منبر، بل عليه أن يحمل أوراقه ويتعهد أمام برّي وفي العلن ألا يقترب من مقاعد الشيعة ليهدده لاحقاً بموقع رئاسة المجلس.
ومع ذلك، فإنّ الإنصاف يقتضي القول إنّ نبيه برّي قدّم للطائفة الشيعية ما لم يقدّمه غيره، لا بحرب ولا بسلاح، بل ببناء بارد ومستمر في قلب النظام. وإذا كان «حزب الله» وحسن نصرالله قد منحا الشيعة مجداً عسكرياً امتد من جنوب لبنان إلى ما وراء الحدود، فإنّ هذا المجد إنطفأ مع إغتيال نصرالله ونهاية الحرب. ذلك المجد كان صاخباً، مشتعلاً، مرتبطاً بالرصاص والميدان والرمزية الثورية، لكنه كان أيضاً مجداً مؤقتاً، هشاً كالنار التي تضيء بسرعة ثم تنطفئ بشكل أسرع. أما نبيه برّي، فقد منح الطائفة مجداً آخر. مجداً بنيوياً لا يموت بانتهاء المعركة، بل يتجذّر في المؤسسات، في الإدارات، في المصارف، في القضاء، في البرلمان نفسه. مجد بلا صور كثيرة ولا أناشيد صاخبة، لكنه أكثر ديمومة وتأثيراً، لأنّه صاغ هوية الطائفة السياسية داخل الدولة، لا خارجها.
لقد أعطى نصرالله الطائفة موقع القوة، وأعطاها برّي موقع القرار. الأول جعلها تخيف الآخرين، والثاني جعل الآخرين يحتاجون إليها. الأول صنع مجداً عابراً للحدود، والثاني صنع سلطة لا تُزاح من مقعدها. ومن هنا، فإنّ إرث برّي، مهما تعرّض للنقد أو سيتعرّض لاحقاً، يبقى أكثر إستقراراً وعمقاً، لأنّه بُني على مؤسسات الدولة لا على ركام الحرب.
لكن ما بدأ كحلم تمكين سياسي، تحوّل مع الوقت إلى شبكة مصالح مغلقة. فكما حرر برّي الطائفة من الحرمان، قيّدها بالولاء له، وربط مصيرها بمصيره. صار حضورها في الدولة مشروطاً بالمرور من تحت عباءته، وصار غيابها مرهوناً بغيابه. ومع مرور الزمن، تحوّل ذلك الحضور الذي بدا يوماً علامة نهوض، إلى سجن من الثبات، إلى مشاركة في نظام جامد يحرسه برّي بمهارة من يعرف أنّ بقاءه هو بقاء المعادلة نفسها.
ثلاثة وثلاثون عاماً، والمشهد لا يتبدل. مجلس مخطوف، معارضة مهمشة، ورئيس يعرف متى يسمح للحياة السياسية بأن تتنفس ومتى يُعيدها إلى سباتها. في بلد تتبدل فيه الوجوه والسياسات والأحزاب، يبقى نبيه برّي كما هو، صورة عن النظام اللبناني الذي لا يتجدد ولا يتغيّر. رجل نجح بأن يجعل من البقاء فن وسياسة، ومن الصمت دستوراً، ومن النفس الطويل عقيدة.
وهكذا، بعد 33 عاماً، يبدو نبيه برّي كمن حوّل التاريخ نفسه إلى طاولة حوار دائمة، يجلس عند رأسها ينتظر أن يتعب الآخرون من الكلام. بين الحرب والسلام، بين السلاح والدستور، بين نصرالله وبرّي، كانت الطائفة الشيعية تمر من مجد عسكري زائل إلى مجد سياسي دائم، من بندقية تُطلق النار إلى مطرقة تُنزل القانون. وربما لهذا السبب، سيبقى إسم نبيه برّي محفوراً في ذاكرة لبنان لا كرئيس مجلس فحسب، بل كأحد الذين فهموا أنّ البقاء في قلب النظام والسطوة عليه، هو الشكل الأذكى للإنتصار.