المجد لمن قالوا «لا»

المجد لمن قالوا «لا»

  • ٢٥ آب ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

الصحافي محمد بركات. لم يكتب ويقُل سوى ما يراه واجباً. فأعلن تجمّع عائلة «آل بركات» التبرؤ منه. هنا ينقلب معنى العصبية: من رابطة دم تحمي الفرد، إلى سيف مسلّط على رقبته إن خرج من جلباب الحزب.

منذ أن تحوّل التخوين إلى السلاح الأمضى بيد حزب الله وأنصاره، صار النقاش في لبنان ضرباً من العبث. لم يعد ممكناً أن تُعارض الحزب أو تُسائل خياراته دون أن تنهال عليك تهمة «العمالة» أو «الخيانة». هذا الحزب الذي يقدّم نفسه بوصفه «المقاومة»، جعل من التخوين مقاومته الداخلية: مقاومة أي فكرة، أي نقد، أي اختلاف. 

المفارقة أنّ حزب الله لا يكتفي بتخوين خصومه من خارج الطائفة الشيعية، بل يتفنن في تخوين أبنائها أولاً. فالخطر الأكبر عليه ليس خصماً مارونياً أو سنياً أو درزياً، بل شيعياً يجرؤ على قول «لا». لأنّ الـ «لا» هذه، البسيطة والعارية، تفضح أنّ الحزب ليس الطائفة، وأنّ الشيعة ليسوا جميعاً جنوداً في خدمته. وهنا يصبح المختلف أشد خطراً من العدو الإسرائيلي نفسه، فيُشيطن ويُعزل ويُرمى خارج الجماعة.

خذ مثلاً الصحافي محمد بركات. لم يكتب ويقل سوى ما يراه واجباً: تحذير من مغامرات الحزب العسكرية التي تجر الويلات على لبنان والشيعة قبل غيرهم. فجاءه الرد ليس فقط من جيوش التخوين الإلكترونية، بل من بيان عائلي أيضاً، إذ أعلن تجمّع عائلة «آل بركات» التبرؤ منه. أي عبث أكبر من أن يُختصر الإنتماء العائلي والسياسي والوطني في الولاء لحزب؟ كأنّ الحزب صار مرجع الشرف والدم والكرامة، ومن يخالفه يُنفى حتى من إسمه ولقبه وعائلته. هنا ينقلب معنى العصبية: من رابطة دم تحمي الفرد، إلى سيف مسلّط على رقبته إن خرج عن جلباب الحزب.

بهذا، تتكشف حقيقة التخوين: ليس وسيلة لحماية الوطن أو جماعة كما يدّعي الحزب أحياناً، بل أداة لحماية سلطته. فالوطن لا يحتاج إلى قمع الإختلاف، بل إلى إحتضانه. أما الحزب، فلا يستطيع البقاء إلا إذا صادر هذا الإختلاف. من هنا تصبح تهمة «الخيانة» جاهزة لكل صحافي يكتب، لكل أستاذ ينتقد، لكل ناشط يرفض، لكل شيعي يصر على أن يكون نسخة فريدة لا تُذوَّب في قوالب الجماعة.

لكن المشكلة لا تقف عند حدود الأفراد. التخوين يعزل الشيعة عن شركائهم في الوطن، ويصوّرهم ككتلة صمّاء لا صوت فيها إلا صوت الحزب. أي إهانة أكبر للطائفة من هذا الإختزال؟ وأي جريمة أكبر من أن يفرض الحزب وصايته على ضمير جماعة كاملة بإسم «المقاومة»؟ إنّ الطائفة التي حملت في تاريخها تنوعاً فكرياً وثقافياً، من الفقهاء إلى الثوار، تُحشر اليوم في قفص صورة واحدة: صورة الجندي الحامل للسلاح أو «الأزعر» الراكب على «موتوسيكل».

النتيجة أنّ الحزب، وهو يوزع صكوك الوطنية، يقطع عن الشيعة شرايينهم مع الدولة ومع محيطهم. يحوّلهم إلى رهائن خطاب واحد، لا يُسمع فيه سوى صدى البندقية. وكلما ارتفع منسوب التخوين، ضاقت مساحة المشاركة، حتى لم يعُد أمام الشيعي إلا خياران: أن يذوب في الحزب أو يُرمى خارج الجماعة. وفي الحالتين، يُحرم من دوره الطبيعي في الدولة والمجتمع، ويُسلب حقه في أن يكون مواطناً حراً، لا عنصراً في جيش عقائدي مغلق.

الحقيقة البسيطة التي يرفض الحزب الإعتراف بها هي أنّ الوطنية لا تُختصر في بندقية، وأنّ المقاومة ليست ملكاً لفئة ولا لطائفة. ما يحمي الشيعة واللبنانيين ليس تخوين المعترضين، بل بناء دولة تحتضن الجميع. أما تحويل كل نقد إلى خيانة، وكل إعتراض إلى عمالة، فهو ليس إلا إنتحاراً جماعياً بإسم «الوفاء». وهو وفاء مزيّف، لأنّه وفاء للحزب لا للوطن، وللزعيم لا للدولة، وللشعار لا للحقيقة.

الخيانة الحقيقية ليست في أن يرفض محمد بركات مغامرات الحزب، بل في أن يحاول الحزب إسكات محمد وكل من يشبهه. الخيانة ليست في أن تقول «لا»، بل في أن تُلغى هذه الكلمة من قاموس الشيعة واللبنانيين. والخيانة الكبرى هي أن يُصدّق الناس أنّ حزباً واحداً، مهما علا شأنه، يملك حقّ منح الوطنية وحق نزعها عن وطن كامل.

إنّ ما لا يريد الحزب فهمه هو أنّ السلاح الذي يحاول تكريسه كـ «سلاح الله» بات عبئاً على حامليه قبل غيرهم. وأنّ التخوين الذي يرفع لواءه في كل مواجهة سياسية سيعود عليه بعزلة قاتلة. يوماً بعد يوم، سيكتشف الشيعة أنّهم لا يدفعون ثمن خصومة الآخرين لهم، بل ثمن خطاب حزب يختصرهم في البندقية ويقصيهم عن الوطن.

من يوزع صكوك الوطنية سيكتشف قريباً أنّه حاصر نفسه قبل أن يحاصر الآخرين. والشيعة، إذا استمروا أسرى لهذا المنطق، سيجدون أنفسهم غرباء عن وطنهم قبل أن يكونوا غرباء عن محيطهم. أما طوق النجاة، فلا يأتي من شعارات الحزب، بل من الدولة وحدها، ومن الجرأة على إستعادة الكلمة المسلوبة: «لا». 

المجد، إذن، لمن قالوا «لا». لهؤلاء الذين يغامرون بالخروج من السرب ليعيدوا للطائفة كرامتها وللوطن روحه. المجد لمن يقاومون سطوة التخوين بالكلمة، ومن يتحدون عزلتهم بالجرأة، ومن يدفعون ثمن الحرية لا ثمن الوصاية. المجد لمن يكتبون إسمهم خارج دفاتر الحزب، ويثبتون أنّ الإنتماء لا يُقاس بولاء أعمى، بل بشجاعة النظر في العين والقول: «لا».