مسرح.. «طلع إبليس بيحب الله» يعود في شهر آب
مسرح.. «طلع إبليس بيحب الله» يعود في شهر آب
منذ اللحظة الأولى التي تبدأ بنباح كلب وحتى آخر لحظة، يقدّم العرض مزيجاً نادراً من السخرية الذكية والدراما الوجودية العميقة
يعود العرض المسرحي «طلع إبليس بيحب الله» من كتابة وإخراج محمد دايخ، وبطولة حسين قاووق وحسين دايخ، في جولة ثانية هذا الصيف، إبتداءً من 7 آب على خشبة مسرح البوليفار. لقد تجاوز نجاح هذا العمل كلّ ما قدّم في المسرح اللبناني الحديث مؤخراً. نصّ ذكي يتدفق بسلاسة منذ اللحظة الأولى التي تبدأ بنباح كلب وحتى آخر لحظة، يقدم العرض مزيجاً نادراً من السخرية الذكية والدراما الوجودية العميقة.
مسرح يتكلم
تُفتتح المسرحية في شقة صغيرة مكوّنة من غرفة واحدة – فقيرة من حيث الماديات، لكنها غنية فكرياً وثقافياً. لوحات كارافاجيو، كتب، كاسيتات، أوراق، ولوحة «خلق آدم» لمايكل أنجلو تتوزع في المكان. كل شيء يشير إلى هوية ساكن هذا البيت. ثم تأتي المفاجأة الأولى: نسمع نباح كلب، ويدخل إسماعيل (يؤديه حسين قاووق) من باب الحيوانات الأليفة. يجلس ويبدأ برسم صورة مثالية لموته كما يتخيله.
ما يلي هو مونودراما تمتد حوالي 45 دقيقة، ثم يدخل بشكل غير متوقع شخصية ثانية (يؤديها حسين الدايخ)، لينطلق الإثنان في رحلة حوارية مكثفة تتناول مواضيع الوجود، الخلق، الوطن، ومصير الإنسانية.
المخرج والدائرة القريبة
محمد دايخ هو صوت جريء، صادم ومشاكس في الفن اللبناني، عُرف بصراحته وجرأته في نقد المجتمع والنظام. من أعماله السابقة «هردبشت» (2023)، «السبعة ودمْتها»، «عم بيقولوا إسماعيل انتحر»، «لا علّ ولا عسى»، إلى جانب مشاريع تلفزيونية مختلفة.
لكن ما يميّز هذا العمل تحديداً هو خصوصية فريق الإنتاج. دايخ يعمل مع مجموعة مقربة جداً من أصدقائه وعائلته، تُشبه إلى حد كبير دائرة جون كاسافيتس الإبداعية. الروح المستقلة، إلى جانب الموهبة الفطرية والثقة العميقة، جعلت من طلع إبليس بيحب الله عملاً صادقاً، خاماً، وقوياً.
رحلة في العدالة والشر
تتناول المسرحية في جوهرها مفاهيم العدالة والحالة الإنسانية. عبر الحوارات والأسئلة الفلسفية المتداخلة، تفكك المسرحية جذور الشر وتطرح تساؤلات حول آليات الخلق – الإلهي منها والبشري. لا تقدم أجوبة، بل تفتح المجال للتأمل. تقول إحدى العبارات القوية في المسرحية: «لأنّ الامتعاض بيقدي إلى ثورة، والثورة هي وقفة عز لكل إنسان شريف»
وكأنّها نبوءة.
في بلد مثقل بالموت، والذل، والانقسام، لا يسعى دايخ لحل الأزمات الوجودية التي تعصف بلبنان، بل لإعطائها صوتاً. شخصياته تُجسد شعباً يشعر بالخذلان من الظلم، لكنه لا يزال يتشبث بكرامته.
أسلوب فريد من نوعه
لا تنتمي مسرحية «طلع إبليس بيحب الله» إلى مدرسة مسرحية واحدة، لكنها تميل إلى الواقعية السحرية. إحدى الشخصيتين تعتقد أنّ الأخرى قد تكون ملاكاً، ما يفتح باباً للغموض والتأويل. الأداءات بسيطة، لكنها لا تخلو من المسرحة المعهودة، بما ينسجم مع تقاليد المسرح اللبناني.
ذروة العرض تأتي في منتصفه تقريباً، عندما يدخل الشخصان في نقاش ميتافيزيقي حول خلق الكون. يطرح الدايخ سؤالاً إستفزازياً: أين يكمن الشرّ الحقيقي؟ هل هو في الكاتب؟ في البطل؟ أم في من ينفذ؟
مونولوج إسماعيل بدوره يقدم نقداً لاذعاً للمجتمعات القروية اللبنانية، خصوصاً في مشهد جنازة يكشف عن النفاق الإجتماعي والديني. أما رفض إسماعيل في النهاية لتنفيذ ما جاء من أجله، فهو لحظة إنسانية صافية، تقشعر لها الأبدان، وتنهي المسرحية بنبرة بسيطة لكن مؤثرة.
كيف استقبلها الجمهور؟
في عرضها الأول، امتلأت القاعة بالمشاهدين، وأثارت المسرحية نقاشات واسعة. كثير من الحضور وصفوا العمل بـ «الضروري»، و«المرآة الصادقة للمجتمع»، لما يتناوله من مواضيع يتجنّبها الآخرون. الحميمية التي خلقها المكان الصغير جعلت التأثير العاطفي أقوى، حيث غادر البعض باكياً أو صامتاً، متأثراً بما شاهد.
الخاتمة: موجة جديدة تلوح في الأفق
مع «طلع إبليس بيحب الله»، قد يكون محمد دايخ قد زرع بذور موجة جديدة في المسرح اللبناني – موجة جريئة، وجودية، محلية في نكهتها، لكنها عالمية في مشاعرها. هذه ليست مجرد مسرحية، بل صرخة فنية خام وصادقة، من جيل يبحث عن أجوبة، أو على الأقل عن مساحة لطرح الأسئلة الصحيحة. عمل كهذا لا يزول ونصّه طويل الأمد وكل ما عتق أصبح أعرق وأرقى. في بلد يُعاني فيه الفن من غياب الدعم والمنصات والمساحات، يأتي هذا العمل كدليل حي على أنّ المسرح اللبناني لا يزال ينبض بالحياة، ويسعى الى تطوير لغته.