بلديات لبنان: التوافق عدو الديمقراطية
بلديات لبنان: التوافق عدو الديمقراطية
في لبنان، حيث تُدار السياسة بروح التسويات لا المؤسسات، ومع اقتراب موعد الانتخابات البلدية المرتقبة في أيار 2025، يتكرّر مشهد مألوف، يكاد يُختزل في عبارة واحدة: "لائحة توافقية فازت بالتزكية". في القرى والبلدات، من الشمال إلى الجنوب، تُعلن اللوائح مسبقاً، تُغلق صناديق الاقتراع قبل أن تُفتح، ويُسدل الستار على العملية الانتخابية بلا منافسة، ولا برامج، ولا نقاش. يُقال للناس إن ما جرى هو حفاظ على "السلم الأهلي"، وإن التوافق هو "صمّام أمان" أو "درء للفتنة"، ولكن خلف هذه العبارات البرّاقة، تختبئ أزمة عميقة في جوهر الديمقراطية المحلية.
الانتخابات، في معناها الحقيقي، ليست مجرد موعد تقني لتجديد المجالس، بل لحظة حيوية تعبّر فيها المجتمعات عن تنوّعها، انقساماتها، طموحاتها، وحتى تناقضاتها. إنها الفضاء الذي تلتقي فيه الرؤية الفردية بالمصلحة الجماعية، والمكان الذي تُطرح فيه الأفكار وتُختبر فيه الخيارات. أما حين يُغلق هذا الفضاء بحجة "التوافق"، فنحن لا نحمي الوحدة، بل نُقصي الرأي الآخر، ونُجهز على حق أساسي من حقوق المواطن: حرية الاختيار والمحاسبة.
التوافق، كما يُمارس اليوم، لا يعني اتفاقاً مجتمعياً شاملاً على مصلحة عامة، بل يعني عملياً صفقة بين القوى النافذة، تُعقد في الغرف المغلقة، وتُقسَّم فيها الحصص كما تُقسَّم الغنائم. يُعاد تدوير الوجوه نفسها، ويُستبعد الشباب، وتُهمّش الكفاءات، ويُفرض على الناس خيار واحد، بلا بدائل. فهل هذه ديمقراطية، أم تعيين مُقنّع؟
في معظم الحالات، لا تُبنى اللوائح التوافقية على برامج أو خطط إنمائية، بل على توازنات عشائرية، حزبية، أو مالية. ففي ظل غياب المنافسة، يصبح المال السياسي أداة حسم أساسية. رجل الأعمال المحلي يُموّل اللائحة، لا بدافع الإنماء، بل لحجز موقع نفوذ في المجلس البلدي، يحمي مصالحه ويوسّع رقعة نفوذه. هكذا، يتحوّل المجلس البلدي إلى شركة مساهمة، تُدار بأيدي حملة الأسهم لا ممثلي الناس.
وفي هذا السياق، يصبح أصحاب رؤوس الأموال الأكثر تأثيراً في اللعبة البلدية، لأنهم لا يحتاجون إلى إقناع الناخب، بل إلى إرضاء شركاء التوافق. يُستبعد الفقراء وأصحاب المبادرات الصادقة، ويُقصى كل من لا يملك ظهراً سياسياً أو ثقلاً عائلياً أو قدرة تمويلية. فاللائحة هنا لا تُختار بناءً على كفاءة أو رؤية، بل بناءً على القدرة على الحفاظ على التوازنات وتوزيع "المغانم".
يدّعي البعض أن التوافق يجنّب البلدات الانقسامات والصراعات العائلية، لكن الواقع أن الديمقراطية لا تعني غياب الخلاف، بل القدرة على تنظيمه وإدارته بشكل سلمي. المجتمعات التي تقمع اختلافاتها لا تتقدّم، بل تنفجر لاحقاً. أما المجتمعات القوية، فهي التي تمتلك شجاعة النقاش، وشفافية المساءلة، وقدرة الاحتكام إلى صندوق الاقتراع.
التوافق، بصيغته اللبنانية، يُفرّغ الديمقراطية من مضمونها. لا نقاش، لا منافسة، لا وعود، ولا مساءلة. فقط صفقة تُدار فوقياً، وتُقدَّم للناس على أنها قدر لا مفر منه. ويُطلب من المواطن أن يصفّق، لا أن يختار. أن يبارك، لا أن يُحاسب. أن يُبايع لا أن ينتخب. فكيف نُقنع الأجيال الجديدة بالمشاركة في الشأن العام إذا كانت النتائج محسومة سلفاً؟ وكيف نُربي جيلاً جديداً على روح التنافس، إذا كنا نُغلق أمامه أبواب المنافسة، ونُخبره أن "الكرسي محجوز" منذ زمن؟ وكيف نبني دولة قانون ومؤسسات ونحن نمارس أسلوب "التهريبة" في أصغر أشكال الاستحقاق الديمقراطي؟
إن انتقاد التوافق لا ينبع من موقف مبدئي ضده، بل من طريقة ممارسته. فالتوافق قد يكون مفيداً حين ينبني على رؤية مشتركة، يُسبقه نقاش علني، ويُطرح فيه برنامج واحد يُوافق عليه المجتمع المحلي بأطيافه المختلفة. هذا توافق صحي. أما حين يُستخدم كوسيلة لإقصاء المعارضين، وإغلاق النقاش العام، والهروب من المحاسبة، فإنه يصبح مشكلة بنيوية تعيق الإصلاح وتكرّس الجمود.
مع اقتراب أيار 2025، نحن أمام فرصة لإعادة الاعتبار للانتخابات كمحطة ديمقراطية حقيقية. لا نريد معارك عبثية ولا صراعات شخصية، بل تنافساً نزيهاً بين برامج ورؤى. نريد أن نسمع أصوات النساء والشباب والكفاءات. نريد مجالس بلدية تُبنى على الثقة الشعبية لا على التحالفات الفوقية. نريد أن ننتقل من التواطؤ إلى التشارك، ومن الصفقات إلى الشفافية، ومن الزبائنية إلى المشاركة الحقيقية. نريد الانتقال من واقع "القرار بيد زعيم العائلة" إلى "كل فرد يملك قراره وخياره الخاص". إن الديمقراطية ليست مجرد لحظة اقتراع، بل ثقافة تُبنى في تفاصيل الحياة اليومية. وإذا كنا نغلق باب الانتخاب في القرى، فكيف ننتظر بناء دولة على مستوى الوطن؟
إن ظاهرة التزكية والتوافق، كما تُمارس في لبنان، ليست حلاً بل عارض مرضي يعكس أزمة عميقة في الحياة السياسية. إنها طريقة لإخفاء الانقسامات بدل مواجهتها، ولتكريس المحاصصة بدل تجاوزها، ولتدوير السلطة بدل تجديدها. إن أكبر خطر على العملية الديمقراطية في لبنان ليس العنف، بل التواطؤ على الصمت. التواطؤ على التزكية، على إقفال باب النقاش، وإيهام الناس بأنهم جميعاً متفقون، بينما الواقع مليء بالأسئلة، والاحتياجات، والتطلعات المختلفة. لهذا، علينا القول بوضوح: دعوا الناس تختار. افتحوا صناديق الاقتراع، لا تُغلقوها. شجّعوا التعدد، ولا تقمعوه باسم "التوافق". ولتكن انتخابات أيار 2025 نقطة انطلاق نحو إصلاح سياسي محلي حقيقي، لا مجرد محطة أخرى لتكريس الأعطاب نفسها.