البابا فرنسيس: الأول في أمور عديدة.. حبرية الرجاء والتغيير في عالم مضطرب

البابا فرنسيس: الأول في أمور عديدة.. حبرية الرجاء والتغيير في عالم مضطرب

  • ٢٢ نيسان ٢٠٢٥

حبرية خورخي ماريو بيرغوليو، وسط رحلات وإصلاحات ووثائق وإعادة هيكلة كنسية والتزامات من أجل السلام والأُخوّة، ومن أجل الفقراء والمهاجرين والبيئة


البابا فرنسيس هو أول بابا يسوعي، وأول بابا من أمريكا اللاتينية، وأول من اختار إسم فرنسيس، وأول من انتخب وخلفه لا يزال على قيد الحياة، وأول من أقام خارج القصر الرسولي، وأول من زار أراضٍ لم يطأها حبر أعظم من قبل، وأول من وقّع إعلان أخوّة مع إحدى أكبر السلطات الإسلامية، وأول من زوَّد نفسه بمجلس كرادلة لحكم الكنيسة، وأول من أسند أدواراً في المسؤولية للنساء والعلمانيين في الكوريا الرومانية، وأول من أطلق سينودساً شارك فيه شعب الله لأول مرة، وأول من ألغى السر البابوي في قضايا الاعتداءات الجنسية، وأول من ألغى عقوبة الإعدام من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية.

وبذلك سعى البابا فرنسيس إلى تحقيق عمليات للتنفيذ من شأنها أن تحدث «ديناميكيات جديدة» في المجتمع والكنيسة، مع التركيز على اللقاء والتبادل والمجمعيّة.

وبما أنّ القرب من الشعب، هو إرث من الخدمة الأرجنتينية، قد أظهره البابا في جميع السنوات التي تلت بطرق مختلفة: بزياراته لموظفي الفاتيكان ، وأيام جمعة الرحمة، واحتفالات خميس الأسرار في السجون ودور العجزة ومراكز اللجوء، وجولاته على الرعايا في الضواحي الرومانية، وزياراته المفاجئة واتصالاته الهاتفية.

 قام البابا فرنسيس بـ ٤٧ زيارة حج دولية، بما في ذلك زيارته الى العراق لثلاثة أيام في آذار

٢٠٢١، فتنقّل بين بغداد وأور وأربيل والموصل وقرقوش، في أراضٍ وقرى لا تزال آثار الإرهاب بادية عليها، والدماء على الجدران وخيام النازحين على طول الطرقات، وفي خضم جائحة كورونا والمخاوف الأمنية العامة. رحلة نصحه الكثيرون بعدم القيام بها بسبب الوضع الصحي وخطر الهجمات، وكان  أول بابا يجري محادثات مع المرجع الشيعي علي السيستاني.

والعزيمة نفسها قادته في عام ٢٠١٥ إلى بنغي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى التي جرحتها الحرب الأهلية وخلّفت في أيام الزيارة نفسها قتلى في الشوارع. والذي قال إنّه أراد الذهاب إليها حتى لو كان من خلال القفز «بمظلة»، وافتتح الباب المقدس ليوبيل الرحمة في إحتفال مؤثر، وهو ما يمثل أيضاً الرقم القياسي لسنة مقدسة لم تُفتتح في روما بل في إحدى أفقر مناطق العالم. وقام بأطول رحلة في الحبريّة في أيلول ٢٠٢٤ في سن السابعة والثمانين الى إندونيسيا، بابوا غينيا الجديدة، تيمور الشرقية، سنغافورة. خمسة عشر يوماً، قارتان، أربع مناطق زمنية، أربعة عوالم مختلفة، كل منها يمثل المواضيع الرئيسية لتعاليمه: الأُخوّة والحوار بين الأديان، الضواحي المهمشة والطوارئ المناخية، المصالحة والإيمان، الغنى والتنمية في خدمة الفقراء.

وبالعودة إلى الزيارات الرسولية والزيارات الرعائية، إنّ الرحلة الأولى خارج روما، كانت إلى جزيرة لامبيدوزا الصغيرة، مسرح مآسي الهجرة الكبيرة، مع إكليل الزهور الذي ألقي في مقبرة «البحر الأبيض المتوسط المفتوحة». و أيضاً الزيارة إلى السويد، إلى لوند في احتفالات الذكرى الـ ٥٠٠ للإصلاح اللوثري؛ وإلى كندا مع طلب المغفرة من السكان الأصليين عن الانتهاكات التي تعرضوا لها من قبل ممثلي الكنيسة الكاثوليكية، ومن ثم إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان، وقد شاركه فيها رئيس الأساقفة الأنغليكان ورئيس الجمعية العامة لكنيسة اسكتلندا للتأكيد على الإرادة المسكونية لتضميد جراح الشعب، وناشد قادة جنوب السودان الذين اجتمعوا في عام ٢٠١٩ لمدة يومين في الفاتيكان لتضميدها.

كذلك الزيارة إلى كوبا والولايات المتحدة وهي الزيارة التي خُتمت بإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.، وهو حدث تاريخي أمضى البابا فرنسيس شهوراً من أجله، حيث بعث برسائل إلى باراك أوباما وراوول كاسترو يحثهما فيها على «بدء مرحلة جديدة». وفي هافانا كان هناك أيضاً اللقاء مع بطريرك موسكو الأرثوذكسي كيريل والتوقيع على إعلان مشترك لوضع «مسكونية المحبة» موضع التنفيذ، أي التزام المسيحيين من أجل إنسانية أكثر أخوّة. وهو التزام أصبح، بعد سنوات لاحقة، ذا صلة مأساوية ومهملة إلى حدٍ ما مع اندلاع الحرب في قلب أوروبا. من بين الزيارات أبو ظبي ووثيقة الأخوّة الإنسانية التي وقّعها مع الإمام الأكبر أحمد الطيب، متوجاً بذلك ذوبان الجليد مع جامعة الأزهر والذي بدأ بعناق في بيت القديسة مارتا في روما وانتهى بتوقيع النّص في أبو ظبي وأصبح على الفور حجر الزاوية في الحوار الإسلامي المسيحي.

خبرات وحوارات وتصرفات معاشة في هذه الرحلات أزهرت في وثائق البابوية. أربع رسائل عامة: الأولى «نور الإيمان»، حول موضوع الإيمان كتبها مع البابا بندكتس السادس عشر؛ ثم «كُن مُسبّحًا»، صرخة لطلب «تغيير المسار» من أجل «البيت المشترك» المعرّض للإنهيار بسبب تغير المناخ والاستغلال لموارد الأرض، ولتحفيز العمل من أجل القضاء على البؤس والوصول العادل إلى موارد الكوكب. ثمَّ الرسالة العامة الثالثة« كلنا إخوة» العمود الفقري للحبريّة، وثمرة وثيقة أبو ظبي، ونبوءة الأخوّة كطريق وحيد لمستقبل البشرية. والرسالة العامة «لقد أحبنا» التي تستعيد تقليد وآنية الفكر «حول المحبة الإنسانية والإلهية لقلب يسوع» وتطلق رسالة إلى «عالم يبدو أنّه فقد قلبه».

وهناك سبع إرشادات رسولية: من الإرشاد الرسولي «فرح الإنجيل» حول الاصلاح في الكنيسة لجهة انطلاقتها الرسولية. وصولاً إلى الإرشاد الرسولي «إنّها الثقة» بمناسبة الذكرى السنوية المائة والخمسين لولادة القديسة تيريزيا الطفل يسوع. والإرشاد الرسولي «فرح الحب» حول العائلة، و«المسيح يحيا» بعد السينودس حول الشباب، و«الأمازون العزيزة» بعد السينودس من أجل منطقة الأمازون، والإرشاد الرسولي «إفرحوا وابتهجوا» حول الدعوة إلى القداسة في العالم المعاصر، و«سبحوا الله» وهو تكملة للرسالة العامة «كُن مُسبّحًا» لإكمال ندائه للتفاعل من أجل «أمنا الأرض» قبل «نقطة الانهيار»

كذلك تم إصدار حوالي ٦٠ مرسوماً، لتعديل القانون الكنسي والنظام القضائي الفاتيكاني، لإصدار قواعد وإجراءات أكثر صرامة في مكافحة الانتهاكات الجنسيّة، تضمنت نتائج ومؤشرات وتوصيات لحماية القاصرين ومثلت ذروة العمل لمكافحة الاستغلال الجنسي للأطفال والاعتداءات الجنسية من قبل الإكليروس.

ووضع البابا فرنسيس إجراءات جديدة للإبلاغ عن التحرش والعنف، والتحقيق في إدارة أموال الكرسي الرسولي، وأدخل مفهوم المساءلة، وهي عمليات إصلاح كانت ثابتة في حبريّة البابا فرنسيس..

 كما أصدر الدستور الرسولي عام  ٢٠٢٢، وفيه مستجدات مهمة، ومن بينها إنشاء الدائرة الجديدة للبشارة التي يرأسها الحبر الأعظم مباشرة، وإشراك العلمانيين «في أدوار الحوكمة والمسؤولية».

في سنوات حبريته  البابا  أوكل إلى شخصيات نسائية مسؤوليات كنسية، و أنشأ لجنتين لدراسة الشماسات، ولم يتوقف عن التذكير بـ «العبقرية» الأنثوية والبعد الوالدي للكنيسة، ووضع جنباً إلى جنب مع الكرادلة والأساقفة على طاولات السينودس الأخير حول السينودسية الراهبات والمرسلات والخبيرات واللاهوتيات، وأعطاهن، ولأول مرة، حق التصويت.

 لقد واجه إنتقادات وتحديات مختلفة، نتيجة انفتاحه على قضايا إشكالية كبيرة مثل منح الأسرار المقدسة للمطلقين المتزوجين مرة أخرى، من منظور الإفخارستيا كـ «دواء» للخطأة وليس كـ «غذاء للكاملين»، والبركة الرعوية  للمثليين وهي بركة تعطى لجميع الناس على خلاف البركة الليتورجية، لأنّ هناك في الكنيسة متسعًا «للجميع، بدون استثناء».


مع رحيل البابا فرنسيس ستبقى في الذاكرة من هذه الحبرية مصطلحات :«ثقافة الإقصاء»، «عولمة اللامبالاة»، «كنيسة فقيرة من أجل الفقراء»، و«المسيحي لا يتبع أسلوبا ثقافيًا موحدًا»، «ثورة الحنان» «كنيسة تخرج وتنطلق»، «رعاة برائحة الخراف»، «أخلاقيات التضامن العالمي»، «التغلّب على الخطر الكبير الذي يهدد عالمنا الحالي: أي العيش في حزن فردانيّ»،«لم أكن أعتقد أنني سأكون بابا في زمن الحرب» ، وللشباب « لا تتوقفوا أبداً، سيروا قدمًا بفرح وشجاعة».

 وسيبقى تحذيره أمراء الحرب من أنّهم سيحاسبون أمام الله على الدموع التي تراق بين الشعوب.  وسيبقى الاهتمام بالفقراء مع إقامة يوم مكرس لهم في عام ٢٠١٧، والذي تميز دائماً بتناول البابا الغداء في قاعة بولس السادس جنبًا إلى جنب مع المشردين والمشردات. وسيبقى التعليم حول المهاجرين، والذي تُرجم في الأفعال الأربعة «الاستقبال والحماية والتعزيز والادماج»، كتوجيهات لمواجهة «إحدى أكبر مآسي هذا القرن». كما ستبقى الدعوة إلى وضع «تسويات مشرِّفة» كحلول للصراعات التي تمزق أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا.

 

المرجع: فاتيكان نيوز «البابا فرنسيس، اثنتا عشرة سنة من العمليات، والديناميكيات الجديدة والأبواب المفتوحة»