«هوامش على دفتر النكسة».. والنسيان
«هوامش على دفتر النكسة».. والنسيان
في ذكراها الـ57، تبدو حال العرب اليوم أسوأ من أيام «النكسة». هزيمة «حرب حزيران» عام 1967 أفقدت العرب الأرض، فيما باتوا اليوم دون أرض وروح أو مستقبل حتّى.
في حينها، تحمّست سوريا، مصر، الأردن، ومعها بعض الدول العربية الأخرى، كالجزائر، والعراق، ولبنان، للقضاء على إسرائيل. كان الحلم العربي مبشراً ومهماً، ولكنه كان سطحي أيضاً، لتعود وتحلّ النكسة بعد 6 أيام سريعة من الحرب، بعدما فتكت تل أبيب بجيوش العرب واحتلت أرضهم، فيكتب الشاعر السوري نزار قباني قصيدته الشهيرة: «هوامش على دفتر النكسة».
في النتيجة، غنمت إسرائيل مرتفعات الجولان السورية، الضفة الغربية، قطاع غزة، شبه جزيرة سيناء، والقدس الشرقية ذات الرمزية الدينية المهمة لليهود والمسلمين على حد سواء. حتى موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي عام 1967، قال بفخر أثناء تجوله في الأراضي التي سيطر جيشه عليها: «هذا الصباح، حرّرت قوات الدفاع الإسرائيلية مدينة القدس. لقد وحدنا القدس، عاصمة إسرائيل المقسّمة. لقد عدنا إلى أقدس أماكننا المقدسة، ولن نفارقها مرة أخرى»، على ما يذكر الأرشيف الإذاعي الإسرائيلي.
خسارة الأرض في حينها، جرّت الويلات على العرب. النكسة أدت لهجرات وموجات لجوء لمئات الآلاف من الفلسطينيين، المصريين والسوريين. فيما راحت الأنظمة العربية تستثمر في الهزيمة لتشدّ قبضتها على «عملاء الداخل» وضد كلّ باحث عن الحرية أو حقوق الإنسان، فضحّت بالديموقراطية والتنمية والتحديث من أجل مواجهة العدو.
وخرجنا، بعد تجربة أكثر من نصف قرن، من دون ديموقراطية وتنمية، ومن دون قدرة على مواجهة العدو أيضاً. خسرنا الحرب والمستقبل معاً عام 1967، وها هو التاريخ يعيد نفسه، حيث لا تزال إسرائيل تقصف وتعتدي على كل ما تشتهي في فلسطين، لبنان، سوريا، العراق وحتى إيران، فيما الرد عليها يبقى، كما علّمنا التاريخ الحديث، في إطار مضبوط ينتظر «قدوم الساعة» والمكان والزمان المناسبين.
ومن يقاتل إسرائيل اليوم، يملك شيئاً من علّة النسيان. تناست إيران و«حزب الله» و«حركة حماس» أنّ العرب قاتلوا إسرائيل قبلهم، وإن هُزموا، فيما هم يمارسون اليوم أفعال النضال والكفاح والجهاد كأنّ لا سابق عليهم ولا مثيل لهم. نسوا أيضاً التعلّم من الماضي، ولم يدركوا بعد أنّ إمتلاك الحق لا يعني الكثير في هذا العالم الذي يقدّس القوة، وأنّ مواجهة الوحش قد تجعلك أحياناً متوحشاً أكثر منه، وأنّ من يريد أن يحرّر أرضاً وشعباً، لا يمكنه القيام بذلك بمفرده، أو أن يأسر «القضية الفلسطينية» في جلبابه كأنّه راعٍ رسمي وحصري لها.
في الماضي، كان نزار قباني المكروه من الحكم السوري الذي خرج مهزوماً من حرب 1967، أكثر صراحة من كلّ مسؤولي العالم العربي وحكامه المدنيين والعسكريين على حد سواء. واجه الشاعر الصاعد صعوبة في نشر قصيدته عن «النكسة» في بلاده، فلم يجِد إلا مجلة «الآداب» اللبنانية، التي تجرأت على نشر ما يريد قوله في نفس العام، وربما لأنّها تصدر عن الجامعة الأميركية في بيروت ولها قدرة على العمل بمعزل عن ما يريده ساسة وضباط جيش الأنظمة العربية.
صراحة قباني جعلته مكروهاً من الأنظمة والحكومات ورجال العسكر والمخابرات ومن يهوون تعذيب الشعوب وبناء السجون والأقبية. قال في شعره: «إذا خسرنا الحرب لا غرابة، لأنّنا ندخلها بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة، بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة. لأنّنا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة».
لو كان قباني حياً يرزق اليوم، لكان حمل ريشة قلمه وأعاد كتابة ما صاغه منذ 57 سنة من دون تعديل يُذكر. لم يتغيّر الكثير من أيام النكسة، فالهزائم لا تزال واقعة على العرب، تماماً كما هي حال الفوضى والحروب ومنطق الدم المنتشر بينهم، وكذلك البُعد الكامل عن الحداثة وبناء الدول الديموقراطية وتسيّد منطق حقوق الإنسان. ربما كان حمل قلمه ووضع خطين تحت بيته الشعري القديم نفسه: «خلاصة القضية توجز في عبارة، لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية».
واليوم، ونحن على مشارف الذكرى الستين لتلك الحرب، نجد أنفسنا في مواجهة أسئلة جوهرية حول الهوية والمستقبل العربي. هل نستطيع أن نتعلم من دروس الماضي؟ هل يمكننا أن نعيد بناء مجتمعاتنا على أسس متينة من الديموقراطية وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة؟
لقد أصبح من الضروري أن ندرك أنّ القوة الحقيقية لا تكمن في السلاح والصواريخ البالية التي تملكها مئات الفصائل العاملة في بلادنا فقط، بل في المعرفة، والتعليم، والابتكار. علينا أن نستثمر في أجيالنا القادمة، أن نمنحها الفرص لتبدع وتبتكر، وأن نبني مؤسسات قوية وشفافة قادرة على مواجهة التحديات الحديثة. فلننظر إلى شوارعنا وزحمة طرقاتنا وأكوام قمامتنا وفقرنا بعمق، ولنقرّر إن كان تحرير الأرض أولى من التحديث الداخلي.
ربما كان نزار قباني محقاً عندما قال إنّنا لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية. ولكن اليوم، يمكننا أن نغير هذا الواقع. يمكننا أن نبني حضارة حقيقية، قائمة على العلم والتكنولوجيا، على الحرية والعدالة، على السلام والتنمية. فيما يفترض بنا أن نكون صادقين مع أنفسنا أولاً، أن نواجه أخطاء الماضي بشجاعة كذلك، وأن نتحد في بناء مجتمعاتنا من الداخل، من دون عنتريات وخطابات جوفاء أو طبلة وربابة.