عن سر بيروت العظيم الذي أرادوا اغتياله في 4 آب... عن الحياة والحرية

عن سر بيروت العظيم الذي أرادوا اغتياله في 4 آب... عن الحياة والحرية

  • ٠٤ آب ٢٠٢٤
  • فتاة عيّاد

«هل وجدتم بعد بيروت البديلا؟» نبأنا نزار قباني. وها هي بيروت بعد 4 سنوات من انفجار مرفئها، بأرض جنوبها المحروقة ومطارها الخالي إلا من المغادرين، هي الوباء والداء، بعد أن كانت الدواء للباحثين عن الحياة والحرية. لكن أليس هذا ما يريده رئيس كتلة حزب الله النيابية محمد رعد؟ الذي يرى بحق الناس «بالسهر والعيش» جريمة؟ ويريد لهم الموت وحسب على طريق «جبهة إسناد»؟ وهنا سرّ بيروت العظيم الذي يراد اغتياله: الحياة والحرية...

سنوات مضت على انفجار مرفأ بيروت. تعود إلينا اليوم مشاعر الخوف مضاعفة: خوف مما تخبئه لنا منظومة 4 آب من كوارث جديدة، وخوف من حرب إسرائيلية شاملة على لبنان، تدمر ما لم تستطِع منظومة 4 آب فعله وحدها ببيروت، وخوف راسخ على العدالة التي لم تتحقق بعد في ثالث أكبر انفجار كيميائي في العالم، ولم يحاسَب إلى اليوم على هذه المجزرة أحد.    
عودة ذكرى 4 آب للعام الرابع بلا عدالة، إنما تذكّرنا بفشلنا بمحاسبة منظومة النيترات، فتعيد إلى الواجهة مشاعر حزننا وغضبنا وكرهنا، لمن فجّروا مدينتا وقتلوا أكثر من 200 ضحية، وهجّروا أهلها وجعلوها إلى اليوم مدينة معذّبة بلا عدالة، حتى باتت تلك المشاعر تبعث الطمأنينة في قلوبنا، بأنّنا «بشر» طالما أنّنا لم نتجرد من إنسانيتنا، أو نبِع قضيتنا.
لكن في وطني باتت المشاعر جريمة. كيف لا والمتهمون بانفجار المرفأ، أمثال وزير المال السابق علي حسن خليل، أعيد انتخابهم في المجلس النيابي؟ فهناك فئة من هذا الشعب غائب عنها الشعور، فمن جرد من الناس الشعور حتى باتوا ينتخبون قتلتهم ومن يجرونهم للحرب والموت بلا هوادة؟
«هل وجدتم بعد بيروت البديلا؟» نبأنا نزار قباني. وها هي بيروت في عزّ موسم الصيف، بشواطئ خالية وحانات مهجورة، وقرميد منازل اصطياف بلا ضيافة، وجنوب محروق وبيوت وذكريات مدمرة ومطار مهجور إلا من الراحلين عن الوطن، واحتمالات حرب مفتوحة. 
كأنّ بيروت هي الوباء والداء، بعد أن كانت الدواء للباحثين عن الحياة والحرية. لكن أليس هذا ما يريده نائب حزب الله محمد رعد؟ الذي يكره «البحر والسهر والعيش» ويريد للناس الموت وحسب على طريق «جبهة إسناد»؟
وهنا سرّ بيروت العظيم الذي يراد اغتياله: الحياة والحرية. قبل انفجار 4 آب  2020بيومين، حذف عهد ميشال عون جملة «إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان» من أغنية «يا بيروت» في حفل عيد الجيش اللبناني. ومنذ يومين، أقامت فرقة مياس اللبنانية حفلا على واجهة بيروت البحرية بعنوان «قومي». وكأنّ الفرقة من حيث لا تدري، ثبّتت بعد 4 سنوات من محاولات إطفاء بيروت، أنّ الفن فعل مقاومة بوجه محاولات اغتيال الحياة نفسها في بيروت، فطالما نحن «نشعر» بحبنا لهذا الفن، وبكرهنا لمنظومة 4 آب، طالما أنّنا أحياء».
  «وبما أنّه يراد لشعورنا بالحياة أن يموت، لا بدّ لنا من أن نستحضر في هذا اليوم الفيلم الأميركي(إكويليبرم -توازن) الصادر عام ٢٠٠٢  الذي يعدم فيه الناس بتهمة «جريمة الإحساس».
. وتجريد الإنسان من الإنسانية
مناصرون بلا مشاعر

حقق رئيس كتلة حزب الله النيابية محمد رعد مبتغاه، هو الذي يعيب على اللبنانيين أنّهم «يريدون أن يعيشوا حياتهم» فهم برأيه «نزقون، يرتادون البحر والملاهي». فقد ألغت الشركات المتعهدة حفلي تامر حسني وأصالة في بيروت، نتيجة للإضطرابات والخوف من توسع رقعة الحرب. 
هكذا تحوّل حق الإنسان بالحياة إلى «فردية» برأي رعد. والمصيبة ليست بإلغاء الحفلات بل بإلغاء حق الإنسان بالعيش. والمصيبة كذلك ليست في كره حزب الله للحياة، بل في قتلها.
هذا تماما ما يحصل في فيلم «توازن». يصوّر الفيلم مدينة افتراضية تدعى «ليبيريا» كل شعبها بلا إحساس وقد ألغيت الفردية وتأسست جبهة مقاتلة خصيصا لإعدام المتهمين بجريمة  الإحساس، وهم «المقاومون السريون» الذين «يشعرون» ويرفضون تلقي لقاح انعدام الإحساس «البوزيوم» ويقتنون الأعمال الفنية التي شكلت حضارة الإنسان، كلوحة الموناليزا وغيرها من الكتب والمؤلفات وأقراص الموسيقى العالمية.
مع فتح جبهة الحرب جنوبا، وتهجير أكثر من 100 ألف جنوبي، وتدمير قرى بأكملها، وسقوط أكثر من 500 ضحية، يريدون للناس التصرف كأنّ شيئاً لم يكن. فحتى حقّنا بالخوف، يريدون كبته ومنعه، منعا للإنسانية نفسها. 
هذا ما تجلى بضرب مناصرين لحزب الله، الشاب عامر حلاوي في مدينة صور منذ أسابيع، بتهمة «شتمه نصرلله» في معرض خوفه على ابنته من استهداف اسرائيلي لسيارة قرب منزله، كاد أن يودي بابنته.
فالخوف دليل على إرادة الحياة نفسها، ومقاومة جرنا إلى الموت. في حين أن إلغاء خوفنا، يُسهّل جرنا إلى موت وحرب عبثية، دونما اعتراض أو محاسبة على توريطنا في الحرب.
لذا فشعور الناس بالخوف هو مشكلة لدى حزب الله يحاول اجتثاثها، سيما وأنه بعد الخوف تتولد مشاعر القهر والغضب والوعي والثورة ضد من قهروا الناس وتسببوا بمآسيها، ودمروا معالم الحياة في بلادنا، وكل هذه المشاعر، بغنى عنها حزب الله!

لقاح»اللاشعور»

كيف أخذ حزب الله لبنان الى الموت، وأقنع مناصريه بأنّ دمار بيوتهم وقتل أحبائهم تضحية؟ هل جرّدهم من المشاعر قبل أي شيء؟ 
بل الأصحّ أنه لعب على توازن مشاعرهم، فعزز بعضا من المشاعر على حساب بعضها الآخر، كالقناعة بالموت كمصير مشرّف "على طريق القدس"، وذلك على حساب حب الحياة نفسها.
هي الأيديولوجيا إذاً، التي خدّر بها الحزب أنصاره، حتى أقنعهم أن إنقاذ غزة يكون بتدمير لبنان، وإنقاذ طفل في غزة يكون بموت طفل في جنوب لبنان، وهي الأيديولجيا نفسها التي يُمنع من خلالها أب من الخوف على ابنته من الموت، ومن التعبير عن غضبه من تعريض أمن عائلته للخطر، في حين أن قيادات حزب الله تختبئ وتعيش "تحت الأرض" خوفا من الموت.

إرادة »الأب»

في فيلمEquilibrium  أو «التوازن»، يعلن «الأب» (قام بدوره شون برتوي) الذي يحكم ليبيريا، والذي لا يراه الناس إلا من خلال الشاشات، أنّ هناك حربا مع الإحساس في مجتمعنا.
إنها ليست إرادة المجلس بل إرادة الأب وهو يمثل القانون". تذكرنا هذه العبارة التي يقولها مستشار «الأب» في الفيلم دولونت (قام بدوره أنجيس ماكفادين)، بجر حزب الله لبنان جرا إلى الحرب، ليقرر وحده، من خارج الدولة، مصير لبنان.
أما سبب الحرب فغير مهم، يقول مستشار الأب في الفيلم، «ليست الرسالة المهمة بل طاعتنا لها، هذه إرادة الأب. اعتبرها ايمانا، افترض أنه موجود لديك».. وهذا تحديدا هو منطق حزب الله الذي يبرر له جبهة الإسناد في جنوب لبنان.
البوزيوم، مخدر المشاعر العظيم".  هكذا يصف «الأب» مخدر مشاعر الجماهير في ليبيريا، وهو لقاح يومي يأخذونه، لم يبقَ من المشاعر لا الألم ولا الحب ولا الكراهية، بل أبقى على «التضحية» وحدها. 
من هنا يقول أمين عام حزب الله حسن نصرلله في خطابه الأخير بعد استهداف اسرائيل لضاحية بيروت الجنوبية واستهدافها مدنيين، «هذه الجماعة المؤمنة مستعدة للتضحية».  هكذا ألغى نصرلله كل أشكال التعاطف الإنساني مع الوجود، وأبقى على مشاعر «التضحية» التي تسهّل قبول الموت وفقد الأحباء والمنازل والذكريات وتدمير البلاد. 

بيروت... ولغزها
وحده المتمرد كاهن غراماتون، جون بريستون (قام بدوره كريستيان بيل) وهو الذي تقع عليه مسؤولية البحث عن «مجرمي الشعور» وقتلهم، قرّر التوقف عن أخذ لقاح البوزيوم، وعاد إليه الشعور، ليبدأ معه بعدها، الشعور بالتمرد. ويسهّل عليه ذلك، إلقاؤه القبض على مجرمة شعور، إمرأة جميلة تدعى ماري أوبراين، تفيض مشاعرا وشغفا.
تسأل ماري أوبراين (إميلي واتسون)، كاهن غراماتون، "ما الهدف من وجودك؟ أن تحسّ... إن لم تفعل هذا من قبل، فأنت لا تعرف أن الشعور بأهمية التنفس، ومن دونه من دون حب من دون غضب من دون حزن، حياتك مجرد ساعة. تك تك".
لقد عرف نزار قباني في قصيدته «إلى بيروت الأنثى مع الإعتذار»، بأنّ بيروت لطالما كانت أنثى، وكذلك عرف المحتلون، وكذلك عرف الطغاة، أنها معطاء بلا حدود، وأنها هي الحياة، وواهبة الحياة، وأنها هي الحرية، وأنها مثلها لا يموتون.
فسرّ بيروت هو ما وجده غراماتون بين أغراض ماري، صورة لحبيبها كدلالة لتوقها للحياة، رافقتها كلمة freedom أو «حرية». هذا هو سر بيروت العظيم: الحرية وحب الحياة الذي يريدون لها أن تحرم منه، لأنه سر وجودها.
فهذه المرأة الجميلة، التي ستحرق حية لارتكابها جريمة الإحساس، حب الحياة والحرية، إنما تجسد مدينتنا بيروت التي احترقت في 4 آب.

بيروت تحترق... ولا تموت

رأى غراماتون ماري التي أصبحت حبيبته، تحترق أمام عينيه، وجريمتها هي "الشعور". لكن بقيت عيناها متوهجة بالحياة والشغف وعزة النفس وبقيت تقاوم حتى الرمق الأخير. وكانت كلفة موتها، تزعّم غراماتون لحركة «مجرمي الشعور» ضد «الأب» حاكم ليبيريا. 
«للمشاعر كلفة باهظة» يقول، مجرمو الشعور. إذ «أول ما تتعلمه عن المشاعر أن لها ثمنا غاليا، لكن ستنتصر قضيتنا بالطبيعة البشرية».
يذكرنا هذا بمشاعرنا نحن اللبنانيون في ثورة 17 تشرين. مشاعر حب بعضنا بعضا كمواطنين، ينتمون إلى وطن نهائي. مشاعر استنفرت جنود "الأب" فهبّوا حاملين العصيّ يهتفون "شيعة... شيعة" ليزعزعوا الانتماء الوطني عبر لقاح البوزيوم الثابت لدى المنظومة، ألا وهو الطائفية. 

إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان

والحال أنّ الجريمة الحقيقية هي جريمة اللاشعور. وطالما أننا حزينون في 4 آب، طالما أنّنا «بشر» ننبض بالضمير وبالحياة. 
»إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان»، جملة منعها رئيس الجمهورية السابق ميشال عون في حفل الجيش في 2 آب 2020، هو الذي علم بوجود نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، فلم يكن خائفا على المدينة بل خائفا من ثورة 17 تشرين. واليوم حزب الله خائف من حب اللبنانيين للحياة، ومن حقهم بالشعور، أي حقهم بالثورة على من يمنعهم من الحياة والشعور. 
وشعورنا اليوم كشعور مدينتنا بيروت في 4 آب وهو الخوف على بيروت والعدالة، والحزن على مدينة الحياة والحرية التي أحرقوها بدم بارد. 
لقد وجد آخرون «بعد بيروت البديلا»، لكن بيروت، رحم أحزان أبنائها، لا بديل لها في عيون أهلها، وهي كطائر الفينيق لا بدّ لها من قيامة من رمادها، وحتى ذلك اليوم، سنظل نغني لها بأعلى صوت "قومي من تحت الردم... إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان".